لقد أبدع العلماء والباحثون -قديما وحديثا- في وضع مناهج لحفظ السيرة النبوية، وتمييز الصحيح من الروايات من الضعيف والموضوع منها، وإخضاعها للنقد الحديث سندا ومتنا، كما اجتهد المعاصرون فصنفوا وألفوا، وحققوا ونقحوا، وعقدت ندوات ومؤتمرات وملتقيات، ورصدت وحدات التكوين والبحث ببعض الجامعات، ونوقشت رسائل وأطروحات علمية أكاديمية وتفاوت كل ذلك منهجا ومعرفة، وتقليدا وتجديدا، وقربا من الواقع وابتعادا.
وكل من يروم اليوم الكتابة والتأليف في موضوع السيرة النبوية أو بحث موضوع من موضوعاتها في رسالة جامعية أو غيرها يجدر به أن ينظر فلا يكرر، ويفحص فلا ينكص، ويجدد نظرا وعملا، ورؤية ومنهجا، وتعبيرا وتفكيرا وتدبيرا. وتفرض الرؤية الحضارية للسيرة النبوية ضرورة اتخاذها مصدرا للفقه الحضاري، فهي تمثل التجسيد العملي والتنزيل الواقعي للرؤية القرآنية في فقه العمران البشري، وتجسد إلى جانب القرآن المجيد مصدرا للهداية العمرانية.
إن السيرة النبوية هي ذلك الهدي المنهاجي العملي المستوعب لحركة بناء الذات والعمران، أو الهدي التطبيقي لهدى القرآن، وهي بذلك تعد منهجا نموذجيا وممارسة تطبيقية مثالية في إقامة العمران الإنساني قادرة على إفادة العلوم الاجتماعية والإنسانية منهجيا ومعرفيا في التحقق برؤية نسقية تركيبية متكاملة حول قضايا العمران والاجتماع البشري، والإسهام في تقديم بصائر تهتدي بها هذه العلوم -ومعها الحضارة الإنسانية وأنساقها ونماذجها الكلية- في الخروج من أزمتها المعاصرة.
ولعل المهمة الحضارية الكبرى التي تفرض نفسها اليوم في مجال السيرة النبوية تتعلق أساسا بالتمكين لرسالات الهدي المنهاجي النبوي في واقعنا المعاصر وتحقيق درجة عالية من التوازن والتكامل المنهجي والمعرفي داخل الكتابة العلمية الأكاديمية الرصينة المتخصصة في السيرة النبوية. ذلك أن جوهر الإشكال القائم في الكثير من الدراسات والتآليف في السيرة النبوية يكمن في اضطراب مناهج القراءة والفهم، وخلل في الاستنباط والاستلهام الوظيفي أو التطبيقي للسيرة النبوية في واقع الحياة، بل إن إشكالا آخر يتولد عن ما سبق هو عدم اعتبار السيرة النبوية مصدرا لإصلاح مناهج النظر والتحليل وبناء المعرفة، فالسيرة النبوية نفسها تقدم منهجا للفهم والقراءة والتحليل والمراجعة والبناء والاستشراف، وأي منهج لا يراعي خصوصية السيرة النبوية يكون عاجزا عن كشف أسرارها وإدراك معانيها والمضي بها نحو التأسي المنهجي المقاصدي السنني.
الكتابات المعاصرة في السيرة النبوية: ملاحظات منهجية
لا يمكن بحال من الأحوال إنكار تميز بعض الكتابات المعاصرة في السيرة النبوية، وهي وإن كانت قليلة فإن الفضل يرجع إلى أصحابها في التنبيه على عديد من القضايا الهامة في درس السيرة النبوية، ولعل ندرة هذه الكتابات هو الذي دفعنا إلى إعادة النظر في الإنتاج العلمي المعاصر حول السيرة النبوية وتقويم ذلك في ضوء الملاحظات التالية:
- وقوع العديد من الدراسات التي رامت منهج تحليل الوقائع والاستنباط منها في إسقاطات لرؤى تنظيمية وتربوية وفكرية، فتعسفت في التأويل وفصلت الوقائع عن سياقاتها المتعددة، وأفضى بها ذلك إلى اعتماد نظرة تجزيئية اختزالية لا تعتمد المقاربة المنهجية المستوعبة لكل الوقائع والأحداث بهدف تكوين رؤية واضحة المعالم عن قضية من القضايا. “ذلك أن غياب الرؤية الشاملة للمنهج النبوي، وعدم فقه مقاصد التعامل مع الحالات المتنوعة، من الواقع، وأسباب التركيز عليها، أدى ببعض المفكرين إلى اختلال في شمولية الرؤية، وضبط النسب، وبروز فرق خارجة، ونتوءات فكرية، لا تتفق مع توازن وشمولية المنهج النبوي… أخذت بعض الجزئيات وضخمتها، وحاولت المرابطة من ورائها، وتعميمها على المنهج كله، فاضطربت الأولويات، واهتزت النسب، وظهرت الثنائيات المتناقضة، والتعسف في التفسير والتأويل المذهبي لا المنهجي، وأصبحت القواعد والأصول المذهبية، كلامية كانت أو فقهية، هي المعيار لتفسير النص والتحكم بمقاصده، وهو ما لم يعرفه تنـزيل الإسلام الأنموذجي في خير القرون”(1).
- تكرار كثير من الدراسات والأبحاث لموضوعات بعينها، وأفكار واستنتاجات توصلت إليها دراسات سابقة دون أدنى محاولة للمراجعة أو الإسهام في الاجتهاد التنزيلي لفقه السيرة في الواقع المعاصر.
- ضمور المدخل السنني وفقه بناء العمران وفلسفة التاريخ والحضارة في تناول وقائع السيرة النبوية، وعدم رؤية أحداثها وفق نظر كلي شمولي متوازن، في مقابل ذلك نجد دراسات في فقه السيرة بمداخل تربوية أو حركية أو جهادية أو عسكرية. ولئن كنا لا ننكر أهمية هذه المداخل المعرفية في دراسة السيرة فإن كثيرا من الاستنتاجات قد تبعد النجعة بسبب إغفالها لقراءة السيرة قراءة سننية مؤسسة على الرؤية القرآنية السننية للاجتماع البشري.
- إذا بذل لحد الآن جهد علمي مقدر في نقد مرويات السيرة النبوية وتوثيقها ودراستها وفق منهج المحدثين، مع جمع الروايات واستقرائها من كتب السنن والمسانيد والمعاجم والمصنفات والمستدركات والمستخرجات، فإن القيام بدراسات تحليلية حسب أكرم ضياء العمري “هو الجانب الذي ما زال بحاجة إلى عناية كبيرة من قبل الكتاب المتمرسين وأصحاب الأقلام الراسخين والمفكرين الناضجين، وذلك خدمة للسيرة النبوية وتعميقا للمعاني السامية التي تحتاجها الأجيال الصاعدة”(2).
إن تحقيق مخطوط خصوصا حينما يتعلق الأمر برسالة علمية جامعية إذا لم يستوف شروطا علمية ومنهجية وحضارية -من بينها قدرة ذلك المخطوط على حل إشكالات، أو تقديم إجابات، أو استكمال صورة السيرة النبوية بوجه لم يسبق إليه…- لا يمكن أن تصرف فيه الجهود والأوقات والأموال بمجرد دعوى حفظه من الضياع.
ولا يمكن بحال من الأحوال أن تظل السيرة النبوية مجرد خبر من التاريخ، أو تحقيق لمخطوط في التراث، أو دراسة وتخريج لمرويات –على أهمية ذلك وخطورته، وتقدير جهود العلماء والباحثين في ميدان التحقيق ودراسة المرويات- دون استحضار مستجدات العصر ونوازله… وتراكمات العلوم والمعارف وتطور المناهج. وقد عبر أكرم ضياء العمري عن أسفه لعدم تجدد الدراسات التحليلية للسيرة النبوية وعدم استفادتها من مناهج العصر ومعطياته العلمية بقوله: “ويكفي أن القارئ لدراسة حديثة في السيرة لا يكاد يحس فرقا مهما بينها وبين كتاب سيرة ابن هشام أو زاد المعاد على تباين أسلوب ومنهج الكتابين، رغم التطور الهائل في الدراسات الاجتماعية في العصر الحديث، وما تقدمه العلوم الحديثة من معطيات ضخمة تخدم الدراسات الاجتماعية، وللأسف فإننا نعيش على حافة العالم الحديث، ولم نجرؤ على اقتحامه لنفيد من معطياته الثرية المتنوعة، مع أن ما ورثناه من أسلافنا في حقل التأليف التاريخي أعظم بكثير مما ورثه المؤرخون الغربيون من أسلافهم”(3).
في ضرورة استئناف صياغة رؤية تجديدية من منظور سنني:
لكن كيف يمكن لمجموع الدراسات والأبحاث أن تنصرف عن الكشف عن المخزون السنني داخل السيرة النبوية؟
إن المطلوب اليوم هو بعث الفعالية في أصالة معطيات الحركة النبوية بالقيام بدراسات علمية تكاملية تستثمر هذه المعطيات في تقديم إجابات وحلول لمشكلات الأمة الحضارية، لكن هذه الدراسات «لا تؤتي ثمارها المرجوة بأصالة وفعالية واطراد، إلا عبر عملية تجهيز منهجي موضوعي متكامل، يجردها من خصوصيات الزمان والمكان، ويحررها من ملابسات وعوارض الأحوال… التي تحكمت في “دوراتها الإنجازية” النموذجية السابقة، ليصلها بخصوصيات الزمان والمكان المعاصرين، ويربطها بملابسات وعوارض الأحوال القائمة أو الراهنة، وصل احتكام إليها لا وصل تحكم فيها، وربط استثمار مقاصدي موضوعي منضبط، لا ربط اتباعية وتيرية آلية متعسفة، أو انتقائية تلفيقية مميعة! فالتجهيز المنهجي المتكامل للمادة المعرفية للقرآن والسنة والسيرة”(4).
إن الحديث عن فقه العمران في ضوء السيرة النبوية هو حديث عن مدخل أساس من مداخل تجديد درس السيرة النبوية فهما وصياغة وتنزيلا، وهو مدخل يتسم بمنهجية التأسي المقاصدي التكاملي الراشد. ذلك أن السيرة النبوية باعتبارها تنزيلا عمليا للقرآن وتجسيدا لرسالة الإسلام تمثل مرحلة نموذجية تأسيسية في بناء الأمة وفق فقه عمراني إنساني عالمي.
وقد اشتغل ببناء العمران كتلة من العلوم والمعارف شرعية وكونية واجتماعية وإنسانية- بغض النظر عن جدوى هذا التصنيف ومحدوديته وتاريخيته- وطورت أمم معاصرة أنساقا ثقافية ومنظومات حضارية ومنظورات علمية حول العمران والاجتماع البشري وفق رؤيتها للعالم وبحسب نماذجها التفسيرية ورؤيتها الكلية للكون والإنسان والحياة، وخاضت وما تزال تخوض اليوم مشاريع لمراجعة رؤيتها العمرانية للخروج من الأزمة الحضارية التي ألقت بكل كلها على شعوب العالم.
إن تجديد الكتابة في السيرة النبوية اليوم يقتضي إحياء المعاني الحضارية الكبرى للسيرة، وإبراز هداياتها السننية في الاجتماع والعمران البشري مما اندرس بسبب قراءات استجابت لزمانها. إذ السيرة في حقيقتها مسار تاريخي لبداية تشكل حضارة عالمية جديدة بأصول وأسس وقواعد خاصة، وليست قصصا من التاريخ نملأ بها مجالسنا للمفاخرة والمؤانسة، وهو ما جعل العقل المسلم في لحظة من لحظات تاريخه يبالغ في نظم قصائد المديح النبوي ويعقد لها الموائد والموالد، ولو أن الأمر أخذ موقعه الطبيعي من سلم الأولويات والاهتمامات لما كان في ذلك عيبا، إذ سيرته عليه الصلاة والسلام أسمى ما يُتغنى به من تاريخ الأمة وحضارتها.
د. عزيز البطيوي
————-
1 – من تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب: المنهج النبوي والتغيير الحضاري، برغوث عبد العزيز، كتاب الأمة،رقم43، ص23.
2 – العمري، أكرم ضياء. السيرة النبوية الصحيحة: محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية، مكتبة العبيكان، ط6، 2005م/1426ﻫ، ج1، ص24.
3 – ضياء العمري، أكرم. السيرة النبوية الصحيحة، مرجع سابق، ج1، ص14.
4 – برغوث، الطيب. إشكالية المنهج في استثمار السنة النبوية، مرجع سابق، ص110.