الحياة كلها إمكانات واختيارات. والاختيارات ليست إلا اختبارات وابتلاءات. قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور (الملك: 2).
وقيمة الإنسان حسب ما يفضله ويختاره، بل وقيمة الأمة حسب ما تختاره. ولا يتفاضل الأفراد الجماعات، ولا تتفاوت الأمم في سلم الخير والشر والفضيلة والرذيلة والنفع والضر إلا بحسب نوع الاختيار وقوة أثره في جلب الخير الأنفع والأدْوَم زمانا والأهدى سبيلا.
اختيارات الأمة ومآلاتها:
إن ما وصلت إليه حال أمتنا اليوم راجع إلى اختياراتها واختلال سلم أولوياتها، فكانت آثار ذلك سيئة التأثير على حياة الأمة كاملة:
فقد اختار بعض أبناء الأمة -طوعا أو كرها تحت ظروف تاريخية عصيبة-العصبية والتفرق على الوحدة والتوحد تحت راية الإسلام، فكثرت الرايات والولاءات وتضاعفت الآلام والويلات.
وفضل كثير من جهات الأمة العمل بالقوانين الدولية التي فرضها المستعمر، وتُخُلِّي تدريجيا عن شريعة الإسلام في كثير من المجالات الحيوية في جسم الأمة.
واختارت غير لغتها وغير لسان وحيها فتحكمت فيها العولمة وتفككت هويتها وبعدت الشقة بينها وبين فهمها لدينها وتراثها فضعف الشعور والاعتزاز بالانتماء للذات.
وآثر البعض منا الدنيا على الآخرة في التعليم والإعلام والاقتصاد، فصارت التوجهات منكوصة، والقواعد والمعايير مقلوبة.
فماذا تختار أيها المسلم بعد هذا؟
> هل تختار العيش في ظل طاعة الله تعالى والعمل بقوانين شرعه الحنيف فتنعم بالحياة المطمئنة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: 28)؟ أم تختار العيش في ظل الشهوات والغرائز وتعرض عن ذكر الله فلا تظفر إلا بالتيه والشقاء الأبدي: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه: 123 – 124)؟
> وهل تختار الإيمان بتوجيهات الوحي (قرآنا وسنة) وتجعل ذلك أس الاختيارات وحاكمها إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (البقرة: 132)؟ وهل ترضى أن تختار بعد أن اختار الله لك وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلَا مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(الأحزاب: 36)؟ وهل ترضى أن تختار لواقعك ما يناقض دين الله ويشاققه ويعانده؟ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر:4) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(النساء:155)؟
> هل تختار ما اختاره الله رب العالمين ورضيه لخلقه أجمعين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 3) أم تختار ما يعاكس رضى الله ويرضي شهوات العباد والعبيد؟
> وهل تختار ربك الله الواحد الأحد الفرد الصمد أم أربابا متفرقين أآْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (يوسف: 39).
> وهل تختار من أهل القدوة والأسوة من اختارهم الله تعالى ورضيهم وأمر باتباعهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِين (الأنعام:90)، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيئة (البينة:7).
في الحاجة العاجلة لتصحيح المسار وتجويد الاختيار:
> يا أمة الإسلام أفرادا وجماعات وهيئات ودولا وشعوبا إن من واجب الوقت على الأمة أن تفقه اختياراتها، وعلى رأسها:
على مستوى الأفراد:
أولا:تصحيح الإيمان بالله جل وعلا وبالغيب والرسالة وجعل مؤسسات المجتمع في خدمة هذا المقصد حماية لعقيدة المسلمين ودرءا لكثير من الفتن التي أفسدت كثيرا من القلوب ونكبت كثيرا من الشعوب.
ثانيا: تصحيح العمل والسلوك لأنه لا إيمان مقبول بغير عمل صالح، فهما متصلان صلاحا وفسادا، فلا خير يرجى إن لم تُولَ العناية الكبرى لقطاع التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية.
ثالثا: تنشئة الأجيال وتربيتها على قيم الذات قبل الذوبان والانفلات بسبب دائي الشبهات والشهوات، فأجيالنا تعيش الخواء الروحي والتيه الفكري والفساد الأخلاقي، والعمى الغريزي.
على مستوى الأمة:
إن حاجة الأمة ماسة إلى إعادة بناء اختياراتها بما يجعلها خادمة لرسالتها في كلياتها وجزئياتها وفي حالها ومآلها، لتكون مؤهلة للشهود الحضاري والإمامة الصالحة للبشرية. وعلى رأس ذلك:
تقديم شرع الله وجعله هو الهدى وما عداه تابع له، وحمايته من التطاول عليه بالطعن وبسوء التأويل، والتمكين له بكل ما يقيمه من الموارد والمصادر والطاقات، وتبويئه محل الصدارة في توجهات الدولة ومؤسساتها الرسمية والحزبية وغيرها بفقهه الفقه الرشيد ونشر العلم به والهداية إليه.
الاسترشاد بهدايات شريعة الإسلام في حل معضلات الأمة سياسيا واقتصاديا وتعليميا وإعلاميا وقضائيا، وتكوين العنصر البشري القادر على الاجتهاد الشرعي الصحيح والصالح بقصد التفاعل الإيجابي مع الواقع والمحيط الإنساني العالمي.
تقديم وحدة الأمة على غيرها من المصالح الطائفية الضيقة لأنها الأصل وما عداها من الاختلاف خادم لها، فلا حاجة لرفع راية جديدة تناقض الوحدة أو تخرم عرى المسلمين.
العناية بالإنسان وتحريره من الفقر والجهل والخوف والظلم وتأهيله أخلاقيا وعلميا وإعداده لحمل رسالة الأمة واستثمار طاقاته في الإبداع النافع للدين والدنيا.
فاللهم ارزقنا السداد واهدنا سبل الرشاد ووفقنا لما يحقق الخير في المعاش والمعاد.