يشكل القصص من مجموع القرآن الكريم حيزا مهما، وذلك يدل على قيمته الكبيرة في تربية المسلمين وتعليمهم وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم. وهذه القيمة بارزة بيّنةٌ في قوله تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(يوسف 2).
والتعبير بـ”الأحسن” هنا في وصف القصص القرآني الكريم، يشير إلى مسألة منهجية في غاية الأهمية، نبّه عليها القرآن الكريم في عدة مواضع، وهي أن المسلم ينبغي أن يتطلع في جميع أموره إلى الأحسن. ومن أمثلته في القرآن الكريم:
قول الله تعالى {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلانْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(الإسراء : 53)
- وقولهتعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل : 125).
- وقوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}(النساء : 86).
- قال الله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}(المومنون : 96).
- وقول الله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الحسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت :34- 35).
- وقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(الأنعام : 152).
- وقوله تعالى {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك : 2).
ففي هذه النصوص جميعا توجيه إلى مقصد رباني هادف إلى كل ما يرتقي بالمسلم في أعلى الدرجات وإلى كل ما يقوي العلاقة الاجتماعية بين المسلم وأخيه المسلم؛ وإلى كل ما يسهم في تبليغ الهدى إلى سائر الخلق، ولا يكون ذلك إلا بتوخى الأحسن.
وفي تحري الأحسن تخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل. وذلك لأن الله تعالى يقول الأحسن ويفعل الأحسن، ومن ذلك:
- قوله عز وجل {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر : 23).
- وقوله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.(الإسراء : 9- 10).
- وقوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}(التين : 4).
- وقوله تعالى {فتبارك الله أحسن الخالقين}(المؤمنون : 14).
- وقوله تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (البقرة : 136- 138).
وقد كان قصص القرآن الكريم أحسن القصص نظرا لـ:
- الصدق في الإخبار: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُومِنُونَ }(يوسف : 111). فهو قصص مبني على الخبر اليقين؛ لأن الذي أخبر به هوالله تبارك وتعالى الذي {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(سبأ : 3).
- والاختصار المفيد: وهو مبني على القصد في الإخبار، لأنه قصص مراد للعبرة، فهو يحكي من أخبار الأنبياء والناس وغيرهم ما يفي بالجمع بين التشويق والتذكير. ثم هو بعد ذلك مصوغ بأساليب فنية تترك للذهن تصور كثير من التفاصيل في المشاهد والأحداث.
- والتعريف بالأنبياء عليهم السلام وهم أكرم الخلق عند الله تعالى: بذكر علومهم ومعارفهم، والإنباء عن أحوالهم وأخلاقهم الخاصة مع ربهم عز وجل وأهلهم وأولادهم وأقوامهم، والتعريف بمناهجهم في الدعوة والتبليغ والتزكية والتعليم، وغير ذلك مما يفيد الدعاة والمربين والمصلحين.
- وتَضَمُّنه العبرة لأولي الألباب: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(يوسف : 111) قال الراغب رحمه الله تعالى: “الاعتبار والعبرة: الحالة التي يُتَوَصّلُ بها من معرفة المُشاهَد إلى ما ليس بمُشاهَدٍ”. وبناء على هذا المعنى فإن القصص القرآني الكريم يعرض علينا مَشاهِدَ تتضمن في ثناياها كثيرا من الفوائد والحِكَم والأحكام، التي يتحقق بها التذكر والاهتداء. ولذلك قيده بـ”أولي الألباب”؛ لأنهم هم المؤهلون بالمرور من المُشاهَد إلى ما ليس بمُشاهَدٍ.
- بيانُه لسنة الله في خلقه: فإن الله سبحانه وتعالى أشار في كثير من المواضع إلى هذه السنة وأنها تأكدت عبر تاريخ البشرية الطويل. يقول الشيخ ابن عاشور في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُالْمُكَذِّبِينَ}(137). والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أن قوة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتقين المحقين، ولذلك قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي المكذبين برسل ربهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله لتطمئن نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان، فإن للعيان بديع معنى لأن المؤمنين بلغهم أخبار المكذبين، ومن المكذبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس، وكلهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم.
وفي الآية دلالة على أهمية علم التاريخ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال أبن عرفة: السير في الأرض حسي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره.
وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأن في المخاطبين من كانوا أميين، ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوى علم من قرأ التاريخ أو قص عليه”(التحرير والتنوير/ تفسير سورة آل عمران الآية 137).
- وتأكيد عمق حقائق الإيمان في التاريخ: فكل القصص القرآني وخصوصا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنهم مرسلون من إله واحد سبحانه، وأنهم كلفوا بتبليغ رسالة واحدة هي الإسلام. وأنهم دَعَوا جميعا إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى الإيمان باليوم الآخر: يوم البعث والجزاء. كما دل تتابعهم في الزمان على إثبات حقيقة الرسالة والوحي، فصار ذلك حقيقة ثابتة عند البشرية جمعاء.
- وتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم
: قال الله تعالى {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(هود : 120). وفي ذلك ما فيه من الزاد للدعاة لمواجهة كل التحديات التي لن تخرج في نهايتها عن سنة الله عز وجل في خلقه، وقد استقر في عمق الحقيقة الكونية أن العاقبة للمتقين. وصار قوله تعالى {… فاصبر إن العاقبة للمتقين} شعارا خفّاقا يراه المؤمنون مهما امتدت بهم الحياة في الزمان أو في المكان.
وسنحاول بإذنه سبحانه عز وجل أن نعيش مع قصص القرآن الكريم، ابتداء من قصة آدم عليه السلام وختما -إن مدّ الله تعالى في العمر- بقصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
؛ فتلك سلسلة ذهبية مباركة تلخصها الآيات الكريمة:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(يوسف : 108- 111).
> د. مصطفى فوضيل