الناظر في تاريخ الأمة المسلمة المعاصرة في القرنين الأخيرين على الأقل -وإن كانا غير مفصولين ولا مقطوعين عن تاريخ الأمة الطويل- يلاحظ سلسلة تغيرات وتغييرات حصلت في جسم الأمة بين القرن الماضي والقرن الحالي؛ منها ما كان داخليا نابعا من إرادة الشعوب المسلمة وحركتها الذاتية ووعي مصلحيها وروادها في الارتقاء بأحوال الأمة نحو الأفضل في جميع المستويات، وهذا لم يتحقق منه الكثير!! ومنها ما كان آتيا من إرادة الآخر ممثلا في الغرب الاستعماري مثل انجلترا وفرنسا والاتحاد السوفييتي المنهار بشكل أساسي وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا بشكل ثانوي كان غرضها بسط مزيد من الهيمنة على الشعوب المسلمة وضمان تبعيتها اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وهذا التغيير تحقق منه الكثير!!
وبالقدر الذي كان الغرب الاستعماري يمعن في إذلال هذه الشعوب وإلحاقها بفلكه (= المركزية الأوروبية)، كانت الشعوب المسلمة تكافح في سبيل التحرر والانعتاق، وتبذل جهودا وتعلق آمالا عريضة على ذلك. وانتهى هذا التجاذب إلى تفوق الغرب حقيقة وباطنا لأنه تمكن من خطف الثورة من المجاهدين المخلصين وإسناد الحكم إلى أعوانه وحلفائه وأصدقائه، وتمكن من تقسيم خريطة العالم الإسلامي من حيث التبعية بناء على تقسيمها الاستعماري.
وبعد الحرب العالمية الثانية وظهور القوتين العالميتين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وحلفاؤهما طبعت مرحلة النصف الثاني من القرن الماضي بطابع من الصراع كانت ضحيته شعوب العالم الثالث والعالم الإسلامي، التي توزع حكامها ومؤسساتها بين الولاء للغرب الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة، وبين الولاء للغرب الاشتراكي.
وفي هذه المرحلة نجحت الدوائر الغربية من خطف الثورة والثروة معا من يد المجاهدين والشرفاء والأحرار وإسناد السلطة ومراكز القرار للأكثر ولاء وتبعية وخنوعا، ورفعت شعارات كبرى من قبل بعض أبناء جلدتنا ـ خفيت حيلتها يومها عن كثير من الغيورين إلى أن انجلت الغشاوة ـ من قبيل القومية العربية والتحرر والبعث، والاستقلال وعدم الانحياز، وعصر الجماهير، وحكم الشعب بالشعب… وكل شعار كان يخفي وراءه الجهة التي تتولاه داخليا وخارجيا.
وكان الحصاد المر لهذه المرحلة النجاح في إبعاد الفكرة الإسلامية وإقصاء المخلصين من أبناء الأمة المسلمة من علماء ومجاهدين ومصلحين وتهميشهم أو التخلص منهم بشر طريقة؛ وكان حظ البلدان التي رفعت شعارات البعث والحرية والاشتراكية والتقدمية في تجفيف منابع الخير وأهله أكبر وأوفر، وما عاناه أصحاب الفكرة الإسلامية من إخوانهم الذين حظوا بثقة الغرب ومن إخوانهم الثوار الاشتراكيين كان على مرأى ومسمع الغرب اللبرالي والاشتراكي ومباركتهما.
وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بدأ عصر آخر هو إعادة رسم خريطة العالم الثالث والعالم الإسلامي وفق الميزان الجديد للعلاقات الدولية، وما شهده العالم الإسلامي ابتداء من تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم مرورا بحرب الخليج الأولى والثانية وغزو العراق واحتلال أفغانستان والتدخل في الصومال وزعزعة الاستقرار في باكستان واليمن والسودان ولبنان وتغليب كفة الكيان الصهيوني في المنطقة، والتخويف من الإسلام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واعتباره التهديد الحقيقي للمنطقة العربية الإسلامية قبل الغرب!! والتعامل المزدوج مع قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والأقليات…!! فهو تارة يدعم الحكام في سحق الشعوب ما داموا في خدمة مصالح الغرب، وتارة يلوح للحكام بضرورة احترام إرادة الشعوب وتهديد الحكومات بتهمة الفساد وارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان!!
الأمر الذي يمكن أن نستخلص منه ما يلي:
<أن أغلب التغيرات والتغييرات الجارية اليوم هي من نوع التحول في موازين القوة العالمية من أوروبا والاتحاد السوفييتي لصالح الولايات المتحدة، فإذا كان القرن الماضي قرن الأوربيين فالقرن الحالي قرن أمريكي وكل تغير لا يستقر له حال ما لم تحسم فيه الولايات المتحدة.
<أن الغرب نجح كثيرا -وفي الوقت الراهن على الأقل- في تحقيق التغيير الذي سعى إليه في المنطقة الإسلامية من خلال الاستعمار العسكري أولا ومن خلال الاستعمار الثقافي الذي مكن له أكثر أبناء الأمة المتغربون الذين وجدت لديهم أكبر قابلية للاغتراب ومعاداة الذات.
<أن الغرب نجح في تقسيم العالم الإسلامي شر تقسيم، إذ بعد التقسيم الجغرافي جاء عصر التقسيم الحزبي والطائفي والعرقي والديني، ونظرا للإفراط في الظلم والاستبداد والحروب الأهلية الذي مارسه الحكام بالوكالة عن الغرب، نمت نزعات التطرف والانفصال والثورة والسخط على الحكام وعلى الأوضاع السيئة اليائسة، ووجد الغرب حاليا في الشعوب القابلية للتمرد على الحكام والقابلية لابتزاز كل من الحكام والمعارضة وإضعاف الثورين المتناطحين. والسياسىة الأمريكية في التفتيت والتقسيم من جديد أقوى وأطغى.
<التغيير والإصلاح الذي رفعته الحركات الإسلامية والرجال المخلصون من حركات التحرر والإصلاح لم ينعم به أهله بعد!! وظل يساوم أحيانا ويزاحم أحيانا أخرى ويحارب بالدم والنار أحيانا ثالثة. ولم يكن للمسلمين في بلدانهم حق في المشاركة في تدبير شؤونها حتى في البلدان التي رفعت شعارات الديمقراطية والانفتاح السياسي ذالك الانفتاح الذي كان محسوبا ويقطر بمقادير تليق بتنفيس الأجواء وتجنب الاحتقان السياسي والصدام المباشر. والغرب الذي ظل يرفع شعارات الديمقراطية والدعوة بإلحاح إلى الإصلاحات السياسية وتوسيع المشاركة السياسية كان يستثني دوما أصحاب الفكرة الإسلامية، وكلما جرت انتخابات شبه نزيهة -قبل أن تكون نزيهة- ينجح فيها المسلمون يكتسبون ثقة شعوبهم إلا وكان أول صوت يرتفع بالتنديد والدعوة إلى إجهاض المسلسل الديمقراطي ومصادرة حق الشعب في الاختيار هو الغرب بقضه وقضيضه، وحالة الجزائر وفلسطين والأردن ومصر …خير مثال على ذلك، وكأن حال الغرب يقول لنا لن تفرز لكم الانتخابات الديمقراطية والتغييرات الشعبية إلا ما كان على مقاسنا، فاختاروا حكامكم بالسلوك الديمقراطي، أو ثوروا على حكامكم فلن يكون إلا ما نختاره!!!
لذلك فالتغير والتغيير في العالم الإسلامي -سواء كان مصدره من القمة أو من القاعدة، من الداخل أو من الخارج- وإن كان قد مضى عليه قرنان، وتغير مهندسوه وتباينت فيه الأشكال والألوان عبر هذه المرحلة من الزمان، فلا يزال يخضع لحد الآن لدوائر القرار التي كان يمتلك حق ملكيتها الأوروبيون بالحديد والنيران وصار يمتلكها الأمريكان بالقوة والطغيان.
<الغرب يمر اليوم بأحلك فترات أزماته وبأسوأ مظاهر الفشل والهزيمة في مواجهة الإسلام والمسلمين ويواجه اليوم أكبر موجة يقظة إسلامية ليس داخل العالم الإسلامي فحسب بل في الغرب أيضا، وليس لاجتماع الجيوش الغربية اليوم على دار الإسلام وفي داره للقضاء على هذا الدين وأهله إلا مصير واحد أخبر به جل جلاله: {أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر}(القمر: 45)
<تحتاج الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الإيمان بالله ورسوله الأمين والاعتصام بشرعه المبين والائتلاف المتين والتسلح بالوعي الرصين وفقه الحاضر الماضي فقه استبصار واعتبار، والتفكير في أشكال التغيير القائمة على المعالجة الشمولية لمشاكلنا، والمصالحة مع الذات، وإحسان تدبير خلافاتنا مع الذات والآخر بأساليبنا القائمة على العدل والإنصاف وانطلاقا من مقوماتنا الإسلامية، بعيدا عن الإقصاء والارتهان بالغرب، وبعيدا عن الشعـــارات الــزائفة والــمزيفة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم}(الأنفال 70).