الإحباط يمحق الصلاح والرباط
…القانون اليوم قانون الإحباط … الإنسان يصاب في الدنيا بأمراض كثيرة، وقد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم
أن “لكل داء دواء” هذه الأمراض الكثيرة لها أدوية ناجحة وشافية، ولكن هناك بعض الأمراض الوبيلة، بعض الأمراض المميتة، بعض الأمراض العضالة، هذه أمراض خطيرة تنهي حياة الإنسان، فرق كبير جدا بين مرض طارئ له دواء وشفاء، وبين مرض ينتهي بحياة الإنسان.
هذا المثل تمهيد لحقيقة خطيرة، هناك أعمال كثيرة يعملها الإنسان بعضها يقبله الله، وبعضها الآخر لا يقبله، ولكن الذي لا يقبله ربما تاب منه، ربما ندم، لكن بعض الأعمال تشبه الأمراض العضالة، تنهي الأعمال كلها، تلغي العبادات كلها، هذه الأعمال سماها العلماء المحبطات. العمل يلغى، هناك في بعض الأحاديث الشريفة قول للسيدة عائشة يقول “قولوا لفلان إنه أبطل جهاده مع رسول الله”.
فموضوع خطير، حركتك في الحياة، عباداتك: صلاتك صيامك حجك وزكاتك، هل يعقل أن تحبط، وأن تلغى، لذلك ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أنه “يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثورا، قيل يا رسول الله جَلِّهم لنا قال إنهم يصلون كما تصلون ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها”.
الكفر بالله : كبرى المحبطات في القرآن
ربما استعرضنا في هذا اللقاء الطيب بعض هذه الأعمال المحبطة، يقول الله عز وجل : {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}(المائدة : 5) يعني إنسان رفض أن يؤمن بالله، رفض أن يؤمن بالدار الآخرة، آمن بالدنيا وجعلها نهاية آماله ومحط رحاله، هذا الإيمان بالدنيا والإعراض عن الآخرة، وعن قيم الإيمان، وعن قيم الاستقامة، هذا الموقف الرافض للدين يجعل عمله محبطا، أي لا قيمة له، ولا وزن له في الآخرة، بل ربما كان هذا العمل سبب شقائه الأبدي. إذن “ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله” الإنسان حينما يرفض الإيمان أصلا يرفض أن يخضع لله أصلا، يرفض أن يستقيم على أمر الله أصلا، هذا الرفض الكلي لحقائق الإيمان، ولتفاصيل الإيمان، ولمنهج الواحد الديان، يلغي أي عمل صالح يتوهمه صاحبه أنه عمل صالح، لأنه ما ابتغي به وجه الله، ولا وافق سنة رسول الله.
التكذيب بآيات الله
… عمل ثان من المحبطات، يقول الله عز وجل {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم}(الأعراف :147) {والذين كذبوا بآياتنا} يعني هناك آيات عظيمة دالة على عظمة الله، هذا الكون الذي ينطق بكل تفاصيله بوجود الله ووحدانيته وكماله، هذه الآيات التكوينية أفعال الله عز وجل، هذه الآيات القرآنية كلامه، هذه الآيات هي العلامات والإشارات التي تنقلنا إلى معرفة الله، فالإنسان حينما يكفر بها، ولا يعبأ بها، ويكذبها بل يسخر منها، طبعا لن يكون عمله وفق منهج الله، سيأتي عمله وفق مصالحه وغرائزه وشهواته، هذا العمل قد يبنى على إيذاء الآخرين، أو على ابتزاز أموالهم، أو على انتهاك أعراضهم، لذلك هذا العمل يحبط كل عمل، وقد يكون سببا لشقاء الإنسان في الدنيا والآخرة.
كراهية شرع الله
… عمل ثالث من المحبطات، لكنه خطير، قال تعالى {ذلك بأنهم كرهوا} فقط كرهوا {ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} يعني لم تعجبه هذه المناهج الدقيقة التي توصل الإنسان إلى الله، لم يعجبه تحريم الربا، لم يعجبه تحريم الاختلاط، لم يعجبه تحريم المنكرات الاجتماعية، رآها قيودا لا مبرر لها، لم يفهم هذه المحرمات على أنها ضمان لسلامة الإنسان، بل فهمها تقييدا لحريته فتمنى ألا تكون، وتبرم منها بل لم يعبأ بها، ولم يلتزم بها. حينما يكره الإنسان منهج الله، وحينما يكره الإنسان تعليمات الصانع، بل حينما يكره هذه التي يتوهمها قيودا لحريته، وهي في الحقيقة ضمان لسلامته، تماما كما لو أن إنسانا يمشي في أرض فلاة، رأى لوحة كتب عليها “ممنوع التجاوز حقل ألغام” هل يشعر هذا الإنسان المواطن الواعي أن الذي وضع هذه اللوحة أراد أن يحد من حريته، لا أبدا، أراد واضع هذه اللوحة أن يضمن سلامته، وألا يتورط في السير في حقل ألغام.
إذن حينما نفهم أوامر الله ونواهيه ضمانا لسلامتنا، وليست حدا لحريتنا، نكون فقهاء، ومن أعظم الفضائل في الإنسان أن يفقهه الله في الدين.
اتباع ما يسخط الله
…محبط رابع من محبطات الأعمال، الله عز وجل يقول {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}(محمد: 28) الإنسان حينما يمشي في غضب الله، حينما يمشي إلى إيذاء عباد الله، حينما يمشي إلى إرواء لذائذه وغرائزه على حساب حقوق الآخرين، حينما يعتدي على أعراضهم، حينما يبتز أموالهم، حينما يأخذ ما ليس له من أموالهم، هذه الحركة المبنية على العدوان والابتزاز، هذه حركة تحبط أعماله التي تبدو للناس صالحة، هذه الأعمال التي تبنى على ابتزاز أموال الآخرين والعدوان على أعراضهم، وقد يكون له عمل يبدو للناس صالحا، أعماله التي تبدو للناس صالحة سقطت، ولا قيمة لها، ولا وزن لها عند الله إطلاقا، لأنه بنى حركته في الحياة على العدوان، إن على أموال الناس أو على أعراضهم.
الشرك بالله : مثل بليغ لمعنى المحبط الفظيع
… ولكن المحبط الأكبر هو الشرك بالله، لأن الله عز وجل : {لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك}(النساء :47) ولكي أوضح بدقة بالغة معنى الشرك.. نحن في سورية مثلا هناك مدينة في الشمال كبيرة تأتي بعد دمشق اسمها حلب، حينما يكون لإنسان مبلغ كبير في هذه المدينة، ولا بد من السفر إليها كي يقبضه، ركب قطارا من دمشق، لكنه وقع في أخطاء كثيرة، ركب مركبة أو قاطرة من الدرجة الثالثة وبطاقته من الدرجة الأولى، فهذا خطأ.. لكن القطار في طريقه إلى حلب وهو متحرك، ثم إنه جلس في قاطرة فيها شباب ليسوا كما ينبغي، أزعجوه في السفر، هذا خطأ ثان، لكن القطار متجه إلى حلب… ركب عكس اتجاه القطار فأصيب بالدوار، وهذا خطأ ثالث، لكن القطار متجه إلى حلب، خطأ رابع، هو في أمس الحاجة إلى طعام يأكله فتلوى من الجوع، وفي القطار عربة فيها مطعم، غابت هذه الحقيقة عنه، هذا خطأ رابع، لكن القطار متجه إلى حلب؛ كل هذه الأخطاء يمكن أن ينساها الإنسان بعد أن يصل إلى حلب، وأن يقبض هذا المبلغ الكبير، لكن خطأ كبيرا ماحقا مدمرا يرتكبه الإنسان، فيفوته هذا الحق، وهذا المبلغ الكبير، أن يركب قطارا لا إلى حلب بل إلى الجنوب، هذا القطار الآخر مع أنه فخم جدا، ومع أنه من الدرجة الأولى..لكن … يمشي في طريق مسدود، ليس هناك مبلغ يأخذه، ولا هدف يحققه، فلذلك الآية الكريمة {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}(الزمر :65).
الإضرار في الوصية
… نحن في موضوع خطير جدا، يعني ممكن إنسان أعماله في حياته كلها من صلاة وصيام وحج وزكاة، وله أعمال أخرى، هذه تحبط العمل، مثلا إن الرجل ليعبد الله ستين عاما ثم … لا يعطي البنات حقهن فتجب له النار، فالإضرار في الوصية من محبطات الأعمال.
أنا قدمت بعض النماذج، وحبذا لو يراجع الإنسان نفسه في جميع الأعمال المحبطة، لئلا يخسر صلاته وصيامه وحجه وزكاته، ولئلا يلقى الله وهو غاضب عليه…إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي
> أعده للنشر ذ. عبد المجيد بالبصير