تعيش الأمة في هذه المرحلة من التاريخ المعاصر أزمات لم يسبق لها أن عانت من مثلها، وهي أزمات تحتاج إلى تشخيص قويم للتمكن من تحديد ما يجب فعله بشكل سليم. وقد حاول رجال الإصلاح في الأمة ومفكروها في المرحلة المعاصرة دراسة واقع الأمة ووضع مشاريع كفيلة بالنهوض بها، وفي هذا السياق نرى أهمية إثارة هذا الموضوع لقيمته في المرحلة المعاصرة في ظل ما تشهده الأمة من متغيرات محلية ودولية لها آثارها القريبة والبعيدة التي ينبغي التفكير فيها بجدية قبل فوات الأوان.
أولا -فـــي تشخيص معــالم أزمـة الأمــة:
تتداخل خيوط الأزمة وأسبابها وحيثياتها لترابط قضايا الإنسان وصعوبة الفصل بينها لكون الإنسان كلا واحدا وليس أجزاء وقطع غيار، ولكن اللجوء إلى تجزيء هذه المشكلات ليس إلا منهجيا، وبناء عليه يمكن تقسيم مشكلات الأمة إلى مجالات ومستويات، منها:
- مستوى تاريخي: ففي هذا المجال يمكن القول إن مشاكل كثيرة لا تزال جاثمة على صدر الأمة رغم تجاوز الزمن لها، وبعضها ران على الأمة وتراكم مع الزمن حتى صعب إزالته وأصبح يوجه سلوكات الأفراد والمجتمعات بطريقة تلقائية ولا شعورية، مثل مشكلات الإرجاء والتواكل والنزعة الفردية، وغلبة نزعة الجدل على خلق العمل، ومما تراكم عبر التاريخ الحديث تضخم نزعة احتقار الذات والجهل بمقومات الفرد لذاته ولأمته في مقابل تضخم نزعة تضخيم الآخر وتقديره، وتزايدت النزعتان كل واحدة في اتجاهها حتى وصلتا إلى حد الشرخ، ووجدنا كثيرا من أبناء الأمة اليوم في جهل عميق بذاتيتهم الحضارية وأكثر تقديسا للبضائع المستوردة من الآخر (فكرية وقيمية وسياسية واقتصادية)، فظهرت عقدتا احتقار الذات وتعظيم الآخر.
- مستوى سياسي: إن من معالم أزمة الأمة سياسيا معلمان بارزان:
الأول: يتعلق بضعف التدبير السياسي لقضايا الأمة و الذي أفرز كل مظاهر الاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي وغياب مشاريع حقيقية لبناء الأمة، والذي كان سببا في تفاقم أزمات المجتمع المسلم من ارتفاع نسب الأمية، والفقر والبطالة وهشاشة الأخلاق وسائر مظاهر التفسخ والرفض والعزوف، وضعف التحصين الثقافي، وقابلية المجتمع للاختراق، وكأن الطبقات الحاكمة في مجتمعاتنا كانت تمارس الحكم حظيرة على قطيع الأغنام.
الثاني: يتعلق بضعف القرار السياسي المحلي وارتهانه بدوائر القرار الغربي: هذا النوع من الأزمات في المجال السياسي يعد من أخطر أنواع الأزمات لأنه لم يوجد في التاريخ نظام حاكم تابع لدولة أقوى معادية ويحقق في ذات الوقت مصالح شعبه، وهذا النوع من النظم كان دوما هو من يمثل العدو في القضاء على أحلام الشعوب ومشاريعها في الاستقلال والكرامة، وكل حركة احتجاج وإصلاح إلا ويشترك في القضاء عليها كل من الطرفين الحاكم الداخلي والحاكم الخارجي، وما وجد من حكام في بلداننا الإسلامية كانوا في أغلبهم من صناعة المستعمر الذي نجح في تكبيل إرادة الحكومات عبر مجموعة من الآليات والعقود القانونية والسياسية والاقتصادية والأمنية.
- مستوى اقتصادي: إن أهم معالم أزمة الأمة في هذا الجانب أيضا تتجلى في معلمين بارزين هما:
- تغييب التصور الإسلامي لمشاكل الأمة الاقتصادية في البحث عن مصادر الثروة بالطرق المشروعة وإنتاجها بمعايير الإسلام في الجودة والإتقان وتوزيعها بمقياس العدل ورعاية حقوق الجميع كل بحسب ما يستحقه.
- هيمنة التصور الوضعي الرأسمالي أو الاشتراكي على التدبير الاقتصادي، فضلا عن هيمنة من يستغل هذه التوجهات في احتكار الثروة وحرمان الضعفاء من حقهم في الامتلاك والترقي الاجتماعي، وأصبحت الطبقات الاقتصادية في العالم المعاصر محليا ودوليا يطبعها سلوك الاحتكار والتكديس ورعاية مصالح الأغنياء قبل الفقراء بل دونهم في كثير من الأحيان وتحالف في هذا المجال المستبد السياسي والمستبد الاقتصادي وشكلا حلفا واحدا لا تميز بين الفاعلين فيه، لأن كل مستبد سياسي صار رجل اقتصاد وأعمال وكل رجل أعمال إلا وصار حاكما مستبدا أو صنع حاكما مستبدا للدفاع بشراسة عن مصالحهما المشتركة.
- مستوى قيمي: إنه بسبب الأسباب السالفة وغيرها انحدر معيار القيم وتراجع إلى الوراء لسبب جوهري هو أن الممارسة السياسية والاقتصادية القائمة على الاستبداد تتعارض في توجهاتها ومعاييرها مع القيم الخلقية الإنسانية النبيلة والفاضلة التي تحرص على اعتبار كرامة الإنسان وقيمته.
ومن هنا وجدنا تحالفا آخر بين رجل السياسة ورجل المال هو الالتقاء على أرضية دوس الأخلاق واعتبارها في أحسن الأحوال وسيلة لا غاية، ثم نشر أنواع من القيم (العقلية والفنية والسلوكية) في المجتمع بما يخدم مصالحهما ويديم حكمهما وهيمنتهما ويطيل أمد سيطرتهما، ويخفي زيفهما وخداعهما، وجملة هذه القيم تصب في زرع الرذيلة والفحش والتشجيع على الاستهلاك والتنافس في الغرائز واللهو والتكثير من المهرجانات والاحتفالات التي من شأنها إلهاء الشعوب عن مصالحها الحقيقية وتصوير الحكام في صورة من يريد الخير لهذه الشعوب، ومما انضاف إلى عوامل التخدير السياسي الحرب الإعلامية الشرسة على القيم وثوابت الأمة واغتصاب إرادة الأمة في أن يكون لها إعلام يناسب هويتها وأصالتها، كما كان للتعليم في بلداننا أثره الخطير في تشويه وعي الأمة بذاتها وبواقعها وإيجاد شخصيات كثيرة تعيش حالة الاستلاب المدقع.
وقد أصاب التعليم والتربية ما أصاب السياسة والاقتصاد والإعلام من سيطرة المستبد الذي جعل التعليم في بلداننا سلاحا لتدمير الأمة فكريا وثقافيا ومن ثم وجدانيا وسلوكيا، ومنذ أن تلاقت مصالح المستبد الغربي والمستبد المحلي بدأت عملية إفراغ التعليم في بلداننا من محتواه الإسلامي وملؤه بمواد معرفية وقيمية تناسب أهداف ومصالح المستبدين في تخدير الشعوب المسلمة وتزييف وعيها أو غسله وإعادة تشكيله بما يناسب توجهات صانعي الفكر العالمي ومهندسي العولمة في مختلف أبعادها وتجلياتها ومستوياتها.
ثانيا- فـي تشخيص معـالم خريطة طـريق الخـروج مـن أزمـات الأمـة:
انطلاقا مما سبق يتبين أن جروح الأمة عميقة ، وأنها أصيبت إصابات قاتلة في مواطن عديدة من جسمها، غير أن الأمم الحية بفكرها القوية والتي تملك مبادئ سامية فكرا وقيما وسلوكا لا تنال منها الضربات مهما كانت قوية ولا تكون قاتلة أو موجعة إلا حين تكون الأمة ضعيفة في مبادئها ورجالها لأنه كم من مبادئ ضعيفة لئيمة ولا إنسانية صمدت في التاريخ لما وجدت في التاريخ رجالا.
ومن هنا فمشكلة الأمة في إعداد الرجال الذين يحملون همها والرواحل التي تحمل أثقالها بصبر وتجلد، وتأهيل العنصر البشري تأهيلا شموليا متوازنا يجدد في الأمة تدينها الصحيح بدينها وذلك من خلال فتح أوراش في التعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد والقضاء والإدارة غرضها الأساسي تحقيق الأفقاه الواجب على الأمة امتلاك ناصيتها اليوم لتكون في مستوى الريادة والشهادة على الناس وفي مستوى رسالتها التي أناطها بها الباري جل جلاله. وهذه الأفقاه التي وجب فتح أوراشها: هي:
- ورش فقه الدين: يحتاج هذا الورش إلى إعادة بناء المنظومة التعليمية والسياسية والإعلامية للأمة وغيرها بحيث تجعل فيها علوم الشرع وعلوم التربية والتزكية وعلوم اللغة العربية في الصدارة وكل ما يؤدي إلى حسن التحقق بالدين وحسن التخلق به، وما يلزم ذلك من مؤسسات وموارد بشرية ومادية. وإحياء حركة الأمة في الا هتمام بالقرآن والحديث وعلومهما.
- ورش فقه الواقع: يعتبر هذا الورش من الأوراش التي تشتد الحاجة لفتحها لكونه يسد الخصاص المهول الحاصل في الأمة بسبب نقص وعيها بواقعها التاريخي وواقعها الحالي محليا ودوليا، وواقعها المستقبلي وما يسلزمه هذا الوعي من إعادة قراءة تاريخ الأمة والعالم وفق رؤية الذات ووفق سنن الله وقوانينه في الاجتماع البشري، وما يقتضيه هذا الوعي من المعرفة بمختلف مكونات الواقع ومختلف الفاعلين فيه ودرجات قربهم من الذات أو البعد عنها، وما يستدعيه ذلك من ضرورة فقه الأسباب المادية وقيمة العلوم المادية والإنسانية في الفعل والتأثير في الواقع.
- ورش فقه الدعوة : وهذا الورش يشكل العمود الفقري في وجود الأمة واستمرارها ويمثل القناة الصلبة التي تمر من خلالها ثقافة الأمة إلى الناس جميعا، وتشكل المعمل القوي والصحيح لصناعة الرجال على مبادئ الإسلام في التحقق والتخلق والتبليغ ، وفي العلم والعمل والدعوة. فالأمة وجدت لهذه الغاية(غاية فقه الدين للعمل به وتبليغ رحمة الله للناس) ، واستمرت في وجودها وشهودها الحضاري بقيامها بهذه الوظيفة، وما تراجعت عن موقعها إلا يوم تراجعت عن وظيفة التربية والدعوة والتبليغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لذلك فإن من أهم معالم خارطة الطريق إلى استعادة الأمة عافيتها هو عودة الجسم إلى حركيته وفاعليته وإعداد دعاة قادرين على تمثل هذا الدين وتمثيله والدعوة إليه وفق أسس وضوابط الدعوة والتربية كما مارسها رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام وكما مارسها محمد .
- ورش فقه التنزيل: هذا الورش هو خلاصة الأوراش الأخرى ونهايتها إذ الأمة في حاجة إلى علماء ورجال ربانيين يجمعون فقه الدين إلى فقه الواقع للاقتدار على النظر في هذه المشاكل ومعالجتها معالجة شرعية وواقعية تحقق قيومية الدين على الواقع وتوصل الواقع بأحكام الله وتوجيهاته وهداه.
وإذا تبين أن مشاكل الأمة رغم اختلاف مظاهرها فإنها تعود إلى أزمة تصور وسلوك لا أزمة وسائل وأدوات، فوجب أن يصحح التصور وفق ميزان الله ووفق مقومات الأمة فينتج عن ذلك تصحيح سلوك الأمة وحركتها ويتوفر العنصر البشري المؤهل للفعل والصناعة والإنتاج، واستثمار نفس الآليات السياسية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية في توجيه بوصلة الأمة نحو الخيرية والرحمة من خلال أوراشها في الإصلاح في فقه الدين والواقع، وفقه الدعوة والتنزيل.
د. الطيب الوزاني