… لا زلنا مع قوانين القرآن الكريم، والقانون اليوم قانون الاستخلاف، ولكن لابد من وقفة متأنية كتمهيد لهذا القانون.
… العالم الإسلامي يعاني ما يعاني، الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم}(النور :55) … هذا قانون عند الله {…وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}(النور :55).
الحقيقة المرة هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، هل نحن مستخلفون في الأرض؟ لا والله. هل نحن ممكنون في الأرض؟ لا والله. هل نحن آمنون؟ لا والله. طيب هذه وعود خالق السموات والأرض، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين… هناك وعود أخرى {وكان حقا علينا نصر المومنين}(الروم :47) {وإنا جندنا لهم الغالبون}(الصافات : 173) }إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا}(غافر :51) طيب ماذا نفعل بهذه الوعود من عند خالق السموات والأرض؟ وكما تعلمون، ومرة ثانية، زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.
عبادة الله شرط التمكين والاستخلاف واتباع الشهوات سبيل الغي والاستنزاف
إذن، هذه القوانين، قوانين الاستخلاف ما شروطها؟
… نعيد النظر في هذه الآية {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم يعبدونني}(النور:55) .. كأن هذا الوعد العظيم الكريم من عند خالق السموات والأرض له ثمن، ثمنه أن يعبد المسلمون ربهم حق العبادة، العبادة التي أمروا بها، أي أن يخضعوا لمنهج الله بكل تفاصيله، فإذا عبدوه حققت هذه الوعود الكبرى التي تحل بها مشكلات المسلمين.
… العبودية لله عز وجل أن تخضع لمنهجه الشمولي، منهجه الشمولي لعله يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، منهج تفصيلي، والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فإذا أخل الطرف الآخر بما عليه من عبادة الله، فالله جل جلاله في حل من وعوده الثلاث.
إذن قانون الاستخلاف في الأرض يقتضي أن نعبده العبادة التي أرادها الله، ولكن هناك آية تلقي ضوءا على حقيقة هذا القانون، قانون الاستخلاف، قال تعالى : {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}(مريم:55) وقد أجمع العلماء على أن ترك الصلاة شيء، وإضاعة الصلاة شيء آخر.
إضاعة الصلاة لا يعني تركها، بل يعني تفريغها من مضمونها {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}(مريم :55) وقد لقي المسلمون ذلك الغي. أما اتباع الشهوات… من أدق ما شرح المفسرون قوله تعالى : {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}(الشعراء :88) قالوا: القلب السليم القلب الذي سلم من شهوة لا ترضي الله، وسلم من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله، وسلم من عبادة غير الله، وسلم أيضا من الاحتكام إلى غير شرع الله. هذا هو القلب السليم. إذن كأن الله سبحانه وتعالى في آية يفسر هذا الخلل الذي أصاب المسلمين في آخر الزمان {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}(مريم :59).
التدين المرتضى أساس التمكين المرتجى
ولو دققنا قليلا في ثنيات الآية “وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم” الآن ندقق {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}(النور :55) أي دين وعد بتمكينه؟.. الدين الذي يرتضيه لنا، أما إذا فهمنا الدين فهما يختلف عن فهم الصحابة الكرام، فهمناه مظاهر، فهمناه أشياء لا تقدم ولا تؤخر، فهمناه .. خصومات، فهمناه تعصبات، هذا الفهم للدين لانستطيع أن ننتصر من خلاله، إذن {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}(النور :55).
أحيانا نفهم الدين فهما ما أراده الله، أحيانا نتحرك مع الدين تحركا ما أراده الله، لذلك مما يلفت النظر أن أحد العلماء الغربيين، وقد هداه الله إلى الإسلام، قال كلمة رائعة، قالها في بريطانيا، قال: “.. أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب، على الأقل في المدى المنظور، لاتساع الهوة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، لا لأنهم أقوياء، ولكن لأن خلاص العالم بالإسلام.” ولكن بشرط، وقد سقت هذا القول كي أقف عند هذا الشرط، بشرط ان يحسنوا فهم دينهم، وأن يحسنوا تطبيقه، وأن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر.
لذلك… هذا الوعد الإلهي من خلال آية الاستخلاف، لا يتحقق إلا إذا دفع المسلمون الثمن، من هنا نفهم بعض جوانب هذه الآية. قال تعالى… يتحدث عن الطرف الآخر {ومكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}(إبراهيم :46) تصور أن خالق السموات والأرض يصف مكر الطرف الآخر بأنه يزيل الجبال، مع أن أمم الأرض مجتمعة لا تستطيع أن تنقل جبلا من مكان إلى مكان…
سبيل الخلاص المبين إلى النصر والتطمين
الآن نستمع إلى آية لعل فيها خلاص العالم الإسلامي.. قال تعالى : {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}(آل عمران :120)… فالطريق واضح إلى الخلاص، وإلى القوة، وإلى النصر، وإلى التفوق. لا يقتضي هذا الخلاص إلا أن نرجع إلى أنفسنا، ونراجع حساباتنا، وأن نصطلح مع ربنا، وأن نصبر على ما نحن فيه، ثم نتحرك إلى أن نصل إليه، وقد نستحق إن شاء الله أن نستخلف في الأرض.
قانون الاستخلاف في الأرض يحتاج إلى تأمل عميق، لأن خلاص المسلمين أن يصطلحوا مع ربهم، خلاص المسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، خلاص المسلمين أن يطبقوا منهج ربهم في حياتهم، لا أن يكتفوا بالإطار الإسلامي، فرق كبير بين أن يكون المسلم متعلقا بإطار إسلامي، وبين أن يكون المسلم متعلقا بتفاصيل هذا الدين العظيم، من هنا ينبغي أن ننتبه إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما قال : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد :11) يعني المسلم أحيانا أمام قوى كبيرة جدا، وتحت سيطرته بيته وعمله، فإذا أقام أمر الله فيما يملك كفاه ما لايملك… فما من مسلم إلا والكرة في ملعبه، حينما يأخذ قرارا مصيريا بالصلح مع الله أولا، وبطاعته ثانيا، وبتطبيق منهج الله في نفسه أولا، وفي بيته ثانيا، وفي عمله ثالثا، يكون قد دفع ثمن حفظ الله له، وتوفيق الله له، وتأييد الله له، ونصر الله له، هذا هو طريق الخلاص، وما لم نعد إلى منهج ربنا، وما لم نطبق منهج ربنا تطبيقا كما أراده الله، لن نصل إلى ما نصبو إليه، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن نوفق لتطبيق هذا القانون، قانون الاستخلاف… إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
خبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي