ما أحوج الأمة اليوم -أكثر من أي وقت مضى- أن ترجع إلى الإشارات النبوية في أمر الفتن وما يخفيه المستقبل لهذه الأمة مما تفضل الله به على رسوله غيبا كان أو حاضرا، ظاهرا كان أو باطنا، ومما قد يندرج في معظمه ضمن أشراط الساعة، غير أني رأيت اعتباره من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم تخفيفا للهول والوقع على النفوس الأبية، الغيورة على حرمات الأمة ، كيف لا ونحن نشاهد بعيني رؤوسنا، وفي الميدان ما أخبر به صلى الله عليه وسلم محذرا من وقوعه قد جرى به العرف والعادة من غير حذر ولا هلع ولا خجل…
ولو كان الأمر متعلقا بمجرد خبر عابر لهان الخطب، لكنه صلى الله عليه وسلم يطلب راغبا ربه مقبلا عليه في أمر طالما بكى لمصيره الحتمي، إنه أمر أمته التي جاء جبريل إليه من ربه يطمئنه على مصيرها قائلا : أي رب أمتي فيحد له حدا فيدخلهم الجنة ” والحديث بطوله صحيح في الشفاعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا فإذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه يقال له : أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع، فيقول: أي رب أمتي فيحد له حدا فيدخلهم الجنة(1).
هذه الأمة التي أريد لها أن تكون السواد الأعظم في الجنة، والتي طالما بكى لها، وعلى مصيرها سيد الأنام، هي التي تَسبح الآن في خبث الخبائث مستسلمة لما كان يخشاه نبيها صلى الله عليه وسلم أن تقع فيه.
فعن زينبَ بنتِ جحشٍ أَن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دخل يَوما فزِعا يَقول: ((لَا إِلَهَ إِلَّا الله ويل للعربِ من شر قد اقتربَ فُتِح اليَوم مِن رَدمِ يَأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحَلَّقَ بِأُصبَعيه : الإِبهام والتي تليها. قالَت زينب: فقلت: يا رسول اللَّه أنُهلَك وفينا الصالحون؟ قال : ((نَعم إِذا كثُر الخَبَث))(متفق عليه).
قال ابن قتيبة: والخبث: الفسوق والفجور، والعرب تدعو الزنا خبثًا وخبيثة، وفى الحديث أن رجلا وجد مع امرأة يخبث بها أى يزني. قال الله تعالى : {الخبِيثاتُ للخبِيثِين}(النور: 26).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر مَن في زمنه من الفتن والخبث، والناس مع النبوة والقرآن يتنزل، والمعجزات تُرى من حين لآخر… فماذا عن الزمن الذي لا هم لأهله إلا في دنياهم وهواهم حتى إن السنن الكونية التي سخرها الله لبني آدم قد تغيرت عن وظائفها بفعل الطغيان البشري.
فعن أبي هريرة، أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحُّ، وتظهر الفتن ، ويكثُر الهَرج، قَالوا : يَا رَسولَ اللَّهِ أَيمَ هو؟ قال : القتل، القتل(2).
وعن أبي بكر بن أَبِي شيبة، بسنده أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يومٍ من العاليةِ، حتى إِذا مرّ بِمسجد بني معاوِيةدخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا رَبهُ طويلا، ثُم انصرف إِلينا، فقال صلى الله عليه وسلم : “سَألت ربي ثلَاثا، فَأَعطَانِي ثِنتينِ ومنعنِي واحدة، سأَلت ربي: أَن لَا يُهلِك أمتِي بالسنة فَأعطانِيها، وسألته أَن لَا يهلِكَ أمتِي بِالغرق فأعطانِيها، وسألتهُ أَن لَا يجعل بأسهم بينهم فمنعنِيها”.
فهاهي الأمة يُبيد بعضها البعض كاشفة عن بأسها في جسمها، والعدو في مأمن بل في أبهى صور من السعادة يتشفى من الحال الذي تدنت إليه شعوب المسلمين.
فعن حمّاد بن سَلمة، عن عاصِمٍ، عن أَبي وائل، عن عبد اللّه قال: “إِنَّ اللَّه يجمع النَّاس في صعِيد واحد بِأَرض بيضاء كَأَنّهَا سَبيكة فضّة، لَم يُعصَ اللَّه فيها قطّ، ولم يخطأ فِيهَا، فَأَوَّل ما يتكلم بِهِ أَنّه يُنادِي : لمنِ الملك اليوم للَّه الواحد القهارِ اليوم تُجزى كل نفس بِما كسبت لَا ظلم اليوم إِن اللَّه سريع الحِساب، ثم يكون أَول ما يبدءون مِنَ الخصوماتِ فِي الدنيا، فَيُؤتى بالقاتل والمَقتول، فيقال له : لِم قتلت؟ فإِن قال: قتلته )) لِتكون العِزة للَّه، قال : فإِنها لي، فَإِن قال : قتلته لتكون العِزة لفلان، قال : فإِنَّها ليست له فَيبوء بإثمِه، فيقتله بمن كان قتل، بالغين ما بلغوا، ويذوق الموت عِدّة ما ذاقوا”.
فأين أنت يارسول الله لترى اليوم أمة الإسلام تنتهك حرماتها بيدها بل بسلاحها وقواتها، وتكشف عن بأسها وشدتها في جسدها، وكأنها تنذر بنهايتها واقعة فيما يخشاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل ربه ألا يجعل بأسهم بينهم.
وما أسَفُه صلى الله عليه وسلم على عدم استجابة ربه لدعائه إلا لعلمه بخطورة هذا الأمر إذا حصل، كما أن طلبه في حد ذاته ينذر بأن أسباب فناء هذه الأمة تحملها في جسمها والعياذ بالله، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((يَتَقَارَبُ الزَّمان وَيُقبض العِلَم وَتظهر الفِتن وَيُلقى الشُّحُّ ويكثر الهَرْجُ)) قَالُوا: وما الهَرْج؟ قَال: ((القتلُ))(مُتَّفَقٌ علَيه).
—-
1- ينظر في كتاب : تحقيق الإيمان لابن تيمية 1 / 60
2- شرح صحيح البخاري لابن بطال 10 / 12.
(ü) مشكاة المصابيح للتبريزي 3 / 1483 رقم الحديث 5389.
عبد الرحمن بوعلي