تقدم الحديث في عدد سابق عن جوانب من شخصية مصعب بن عمير الفريدة، ويتواصل الحديث عن هذا العملاق العظيم من عمالقة الإسلام، وذلك من خلال نقط عديدة نبدأ بالآتي:
السفارة الدعوية والنجاح المبهر:
استحق سيدنا مصعب لقب السفير الأول في الإسلام نظرا لهذه المهمة العظيمة التي تكلف بها في وقت شديد، وتلكم هي مهمة الانتقال من مكة المكرمة شرفها الله إلى (يثرب) المدينة المنورة حفظها الله من الفتن مع من أسلم من الأوس والخزرج ليعلمهم دين الإسلام، بتكليف من النبي ليمهد المدينة لتكون دار الإسلام، وموطن الدعوة، فكان بذلك في طليعة المهاجرين للمدينة، يقول البراء بن عازب : “أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار بن ياسر، وبلال رضي الله عنهم”.
وقد كان التحاقه بالمدينة بعد بيعة العقبة كما يروي ابن هشام في سيرته: قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة: مصعب وكان منزًله قال السهيلي: منزل بفتح الزاي وكذلك كل ما وقع في هذا الباب من منزل فلان على فلان فهو بالفتح لأنه أراد المصدر ولم يرد المكان على أسعد بن زرارة أبي أمامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: “أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض” وهذا النص يبين لنا وظيفة ومهام الداعية، يعلم الإسلام، ويفقه الناس في الدين، ويؤمهم للصلاة، وهذا يستلزم قبل كل ذلك تكوينا متكامل الجوانب في هذه الأمور، بالإضافة لفقه الواقع كي يكون تنزيل فقه الأحكام موافقا للواقع ومتطابقا معه، وهذا ما توفر في سيدنا مصعب ، فقد تربى في مدرسة النبي في مكة لسنوات، كما هيأ الله له خبيرا بمجال الدعوة وفقيها في الواقع الذي يبلغ فيه الدعوة، وهو الصحابي الجليل أسعد بن زرارة الذي كان دليلَه ومرشدَه أثناء دعوته بالمدينة، ومما يبين لنا ذلك بجلاء ووضوح ما ذكره أهل السير في قصة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما، فقد ذكر ابن اسحاق “أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما، قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد ابن زرارة، قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك.
قال: فقام سعد مغضبا مبادرا، تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، (أما والله) لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره وقد قال أسعد ابن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان قال: فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.
قال: فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا (وأوصلنا) وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله.
قالا: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله.
وهذا النص وحده يبين فقه مصعب ورفيقه بالدين وبالواقع، وبكيفية تنزيل الدين على الواقع، مما يضمن النجاح في الدعوة، كما يبين لنا صورا من آداب الحوار في الدعوة إلى الله تعالى، والنجاح الباهر الذي حققه مصعب في المدينة، فهو نص حافل بالمعاني والدروس، غني بالفوائد التربوية، والإرشارات الدعوية، من قبيل العمل الجماعي في مشاريع الخير والدعوة، وتعدد الاختصاصات لتحقيق التكامل والتآزر، وغير ذلك مما يطول استقصاؤه.
ذ. عبد الصمد احسيسن