إذا كان الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ونفخ فيه من روحه، ومنحه قدراته العقلية والحسيّة والجسدية.. وهو الذي خلق الكون والحياة وبث فيهما الظواهر والموجودات والكائنات والأشياء ووضع فيهما السنن والنواميس التي تنظم أمورهما، وأودعهما القوى والطاقات.. وهو الذي سخّر هذا كلّه للإنسان المستخلف في الأرض، المستعمر لها.. وهو الذي طالبه في كتبه المنزلة أن يتحرك لمتابعة الظواهر والكشف عن السنن، والإفادة من الطاقات لإعمار حياته في هذا العالم، وجعلها تليق بمستواه كإنسان حملته الإرادة الإلهية في البّر والبحر، وفضّلته على سائر الخلائق، ومنحته السيادة على العالمين.
إذا تذكرنا أن الله جلّ في علاه، هو مبدع الكون الكبير، والمهيمن على أسراره ونواميسه وطاقاته الهائلة.. وأنه هو -جلّ جلاله- فالق الحبّ والنوى، ومسيّر الرياح بشراً بين يدي رحمته، وحامل الجواري في البحر، ومولج الليل في النهار، ومكوّر الأرض، ومشعل النار في الشمس، ومفجّر النور في القمر.. وأنه ـ جلّ جلاله ـ باعث الحياة في الطين اللازب، وأنه قيّوم السماوات والأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة هنا أو هناك.. وأنه ما من ورقة ولا رطب ولا يابس، ولا حبة من خردل في صخرة، أو في ظلمات الأرض إلاّ وهو يعلمها سبحانه.
إذا تذكرنا هذا كلّه، وتذكرنا معه لحظة انطلاق آدم \ إلى العالم وقد عُلّم الأسماء كلّها لكي يمارس مهمته فيه.. عرفنا أن تعامل الإنسان مع الوجود من حوله كشفاً وتنقيباً وتعلّماً وتعليماً ونشراً وتوصيلاً.. أي نشاطه المعرفي عموماً، لابدّ أن يتشكل في إطاره الإيماني الصحيح لكي ينسجم مع الناموس.
إن قطبيْ التعامل: الإنسان والكون، هما من صنع الله الذي أتقن كل شيء.. فمن الطبيعي ـ إذن ـ أن تتشكل مفردات هذا التعامل من منظور الإيمان بالله خالق الكون والحياة والإنسان.. وكان من الطبيعي أن تسلّم المعرفة بهذه الحقيقة الكبرى، أي أن تكون “إسلامية” بهذا المعنى الواسع الذي يضع الأمر في نصابه من ساحة الملكوت الإلهي وسننه ونواميسه.
إن هذا التوّجه لا ينسحب فقط على ما يسمى بالعلوم الصرفة (المحضة) والتطبيقية في التعامل مع الوجود، وإنما يمتدّ بالضرورة إلى ما يعرف بدائرة العلوم الإنسانية. بل إنها في هذه أشد ضرورة لأنها المعنيّة بترتيب وضع الإنسان في الأرض، وتنظيم حياته بما يجعله قديراً على تحقيق مهمته في العالم.
ومن ثم تغدو هذه العلوم التي تعالج الإنسان فرداً، كعلم النفس مثلاً، وتلك التي تعالجه جماعة، كعلم الاجتماع والتاريخ، أو تلك التي تستهدف دراسة وتنظيم مؤسساته العامة، كعلوم الإدارة، أو ضبط نشاطه المعاشي كعلوم الاقتصاد، أو تنسيق علاقاته العامة، كالعلوم السياسية، أو حماية حقوقه وتنظيم واجباته، كالقوانين والتشريعات، أو متابعة رؤيته الجمالية، ونشاطه التعبيري كالآداب والفنون.
تغدو هذه العلوم جميعاً في حاجة إلى أن تتشكل هي الأخرى في دائرة ” الإيمان “، وأن تستمد مناهجها وطرائق عملها، بل أن تبني مفرداتها من نسيج المعطيات الدينية التي حددّها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونمّاها النشاط الفقهي بمرور الزمن عن طريق استجابته للتحديات ومتابعته للمتغيرات الزمنية والمكانية، وذلك من أجل أن تصبح الحياة البشرية، بمختلف أنشطتها وصيغها، إيمانية التوجّه، والممارسة والمفردات، ويتم بذلك تجاوز كل ما من شأنه أن يقود إلى الثنائية أو الازدواج بين التوجيه الإلهي ذي العلم المطلق، وبين اجتهادات الإنسان النسبية المتضاربة.
إن إيمانية النشاط العلمي والمعرفي عموماً، لا تعني فقط الدعوة لتحقيق الوفاق بين معطيات العلوم الإنسانية وبين المطالب الدينية على مستوى التطبيق، وإنما تعني، قبل هذا وبعده، احتواء سائر الأنشطة المعرفية الإنسانية على المستويين النظري والتطبيقي معاً، من أجل جعلها تتحقق في دائرة القناعات الإيمانية، وتتشكل وفق مطالبها وتصوّراتها الشاملة أسوة بالعلوم الأخرى.
أ. د. عماد الدين خليل