سؤال يجب على كل مسلم عاقل يعي دوره ورسالته جيدا في هذه الحياة أن يتوجه به إلى نفسه خلال لحظات العمر كله وليس عندما يقترب شهر الصيام فقط، لأن الصيام في حقيقته وفي بعده التربوي ما فرض كموسم سنوي يأتي ثم يرحل، وما فرض لامتحان قدرات البشر وصبرهم على الجوع والعطش، وإنما فرض الصوم أساسا قربة إلى الله تعالى واتقاء لمحارم الله عز وجل، وكذا لتهذيب أخلاق المسلم وتطهير قلبه وتزكية نفسه وتقوية إرادته، وشحذ همته، وإعداده للمستقبل ليسير على هدى الله تعالى بخطى حثيثة تحققا وتخلقا، علما وعملا، تقربا وعبادة، يجد أثرها الإيجابي على كيانه كله : قلبه وجوارحه، مظهره ومخبره. و ترويض نفسه على أعمال الخير والبر وإعداده في حاضره ومستقبله لكل عمل طيب ليصير قدوة لغيره من الناس ويمكن الله له في الأرض. ولو أن المسلم فقه المغزى الحقيقي والمقصد الأسمى من فريضة الصيام لأدرك أن لشهر رمضان طعما خاصا وحديثا يجلي القلوب ومحبة خاصة، وشعورا غريبا لا يشعر به إلا المحبون الراغبون فيما عند الله من ثواب عظيم خاص بالصيام، وفي الفوز بخيرات هذا الشهر العظيم، ولا يتذوق طعم ذلك إلا المتطلعون للارتقاء بذواتهم وأنفسهم تربية وسلوكا وأخلاقا والمتشوقون للنجاة بمغفرة الله ورحمته والفوز برضوان الله عز وجل. وما أعظم الأجر والثواب الذي يناله من الله تعالى من يسعى لصيام رمضان إيمانا واحتسابا لله عز و جل، ومن يسعى أيضا لتحقيق مقاصد الصيام وغاياته المتجلية في تهذيب النفوس وتزكيتها وتقويمها وترشيدها، ومن يسعى أيضا للبعد عن أسباب ضياع فضل الصيام وضياع مقاصده وأهدافه التربوية والسلوكية والأخلاقية. فأين نحن جميعا من أخلاق الصيام؟ وأين نحن من الاقتداء والتأسي بسيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم خير من صلى وصام وعبد الله تعالى حق عبادته؟.
الأخلاق الواجبة في حق الصائم
إن للصيام المقبول عند الله تعالى أخلاقا وصفات ومحامد وشروطا، من اتصف بها كان من الصائمين حقا، ومن ضيعها وذلك بعدم الاتصاف بها وعدم تجسيدها في نفسه وعلى أرض الواقع من خلال تعامله بها مع خلق الله تعالى جملة وتفصيلا فقد أضاع الصيام ونال من الله الضياع والخسران.
> التخلق بخلق التقوى كما قال ربنا عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون…} فالتقوى خلق جامع يكتنز في كنهه أخلاقا كريمة عديدة. ومعنى التقوى أن يجعل المسلم بينه وبين محارم الله تعالى وقاية وحاجزا يمنعه من الوقوع فيها في سائر الأحوال عموما وأثناء الصيام خصوصا. فالتقوى ثمرة من ثمرات الصيام الحقيقي الصحيح، وإذا لم ينتج الصيام التقوى كان مجرد صيام على الجوع والعطش، وما أتعس ساعتها من كان صيامه مجردا من التقوى! وما أشقى من كان على تلك الشاكلة!.
> ومن أخلاق الصيام الخلق مع الله تعالى وجعل الصيام قربة لله تعالى وحده لا شريك له، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث (والرفث : الكلام الفاحش) ولا يصخب (والصخب : اللغط وكثرة الكلام غير المفيد) فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف (وهو تغير ريح الفم ) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه))(متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري). ويتجلى الخلق مع الله تعالى في الصيام في أن ينوي العبد المسلم الصائم في قرارة نفسه أن صيامه وقيامه هو قربة لله تعالى خالصة له وحده، وأنه ما ترك شهوة بطنه وفرجه واتقاء محارم الله تعالى إلا طلبا لمرضاته عز وجل واستجابة لأمره وانتهاء بنهيه واحتسابا للأجر منه سبحانه وتعالى، ولا يهمه أحد من الناس علم بصيامه أم لم يعلم، فيكون صومه لله وخوفه من الله ورجاؤه في الله، فتتحقق له المعاني العظيمة والثواب العظيم الوارد في الحديث القدسي السابق : ((إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي))، كما تتحقق له غايته من الصيام وهي جعل صيامه عبادة خفية بينه وبين ربه عز وجل لا يعرف حقيقة سره ونجواه ولا يستطيع أحد أن يطلع عليه في خلواته وفلواته والتي بإمكانه أن يأكل فيها ويشرب إلا الله تعالى، ولكنه ما دام لم يفعل كان حقا على الله تعالى أن يجزيه جزاء لا يعلم مقداره إلا هو سبحانه القائل :((إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به)).
ومن أخلاق الصيام معاملة الناس بالحسنى والصبر على أذاهم إذا صدرمنهم شيء يخالف شرع الله تعالى، فيعفو الصائم ويصفح الصفح الجميل، خاصة وقد رأينا في الحديث القدسي السابق أن ” الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم”. ومعنى الصوم جنة: أي ستار ووقاية تقي المسلم ما حرم الله عليه، كي يكون صيامه مضبوطا بضوابط الشرع ومتخلقا بأخلاقه وآدابه ومكارمه. وهو ضابط عظيم بإمكاننا إذا أخذنا به وتخلقنا به استطعنا بتوفيق الله تعالى أن نضبط علاقتنا الزوجية، وعلاقتنا الجوارية، والمهنية والحرفية والإدارية والاجتماعية وكل أنواع العلاقات. لأنه في رمضان كثيرا ما يقع الشقاق والخلاف والنزاع والخصام بين أفراد الأسرة والمجتمع نتيجة الفهم السيء للصيام وهو أنه صيام على الجوع والعطش فحسب وهو فهم بعيد كل البعد عن مقصد الشريعة وغايتها من فريضة الصيام، لذلك فكلما كثر الجوع أو العطش أو القلق كلما حدث ما حدثمن معاصي ومنكرات وخاصة إذا كان الإنسان مبتلى بشرب دخان أو خمر أو حشيش أو كان مريضا بالأعصاب ومرض السكر وغيرها من الآفات والابتلاءات فيرفث ويصخب. والصيام مما شرع له هو معالجة كل هذه الآفات والعاهات الخلقية (بضم الخاء) برمتها، وليس مجرد الإمتناع عنها في النهار والإفطار عليها مباشرة بعد الآذان. وإن من تكون حاله كهذه الحال كان كمن ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. والرفث والصخب خلقان ذميمان قبيحان يفسدان الصيام أيما لإفساد، والمسلم ليس من أخلاقه السب واللعن والكلام الفاحش كما قال المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم : ((ليس المؤمن بالسباب ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء)). فيفهم منه أن الصيام طهرة للسان يعوده على الخير فيهذب أقواله كي لا ينطق إلا بما هو خير في أمر دينه ودنياه. وهو تقوية للإرادة وضبط للنفس فلا تصخب ولتتحلى بالأخلاق الكريمة، فيحملها الصوم على الحلموالصفح والعفو والإعراض عن الجاهلين، فيكتسب المسلم من صيامه هذه الأخلاق الجمة والصفات العظيمة.
> ومن أخلاق الصيام الإعراض عن سماع اللغو لقول الله تعالى : {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}(القصص:55). فالكثير من الناس في رمضان يبيتون مع السهرات أمام الفضائيات أو في المهرجانات أو غيرها بين يدي المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات فيصبح ليلهم نهارا ونهارهم ليلا وكأن ذلك لا يتعارض مع شرع الله تعالى في سائر الأيام وخاصة في شهر الصيام والقيام.
> ومن أخلاق الصيام كظم الغيظ والعفو عن الناس وخاصة عند المقدرة كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم : {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}(آل عمران : 134). إن للصوم الحقيقي أثرا إيجابيا يجب أن نسعى في السيطرة به على حواسنا سمعنا وبصرنا وتفكيرنا وكل جوارحنا حتى نبلغ به منزلة ودرجة الإحسان فنفوز بمحبة الله تعالى وكفايته وولايته، ونجسد بذلك مغزى قوله تعالى : {والله يجب المحسنين} وكذا المراد من الحديث النبوي الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ((إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن المحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء))(أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما). فإذا وصل المسلم بصيامه هذه المنزلة فيشمل صومه سمعه وبصره ولسانه وفرجه، فصم أذنه عن كل قول بذيء، أو عن نميمة يلقيها نمام يريد بها الإفساد والتفرقة بين الأصحاب والخلان، أو عن غيبة يريد بها مغتاب هتك عرض مسلم أو مسلمة بغير حق، أو عن بهتان وعدوان يقوله البعض عن البعض بغير حق، وعصم المسلم بصره فلا ينظر إلى ما حرم الله عليه النظر إليه كالتطلع إلى النساء الأجنبيات وإطلاق بصره حيث شاء دون رقيب من الله تعالى أو حسيب، وحفظ المسلم لسانه فلا يقول فحشا، ولا زورا ولا إثما أو باطلا، ولا يذكر الناس إلا بخير، فلا يبهتهم ولا يظلمهم ولا يقع في أعراضهم بغير حق مصداقا لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(أخرجه البخاري في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه). فإذا وصل الصائم إلى هذه المنزلة من الخلق الكريم فقد صام حقا وجسد أخلاق الصيام وفاز إن شاء الله بأجره كاملا غير منقوص. وإن الصيام الكامل الشامل لكيان الإنسان كله لهو الذي يصل بصاحبه إلى درجة التقوى، وهي المنزلة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بامتثال مكارم الأخلاق وأجل الصفات والبعد عن مساوئها.
من ثمرات الصيام وفوائده
إن الصيام لا يؤتي أكله ولا ينتج ثماره ولا يحقق مقاصده في حياتنا وفي سلوكنا وأخلاقنا وفي علاقاتنا بعضنا مع بعض إلا إذا ترجمناه إلى واقع عملي وإلى خلق حي وإلى عبادة حقة لها عينان ولسانا وشفتان ورجلان ويدان وعقل وقلب وكيان حي يمشي على الأرض بأدب وخلق رفيع، وإلا فقد روحه وأصبح جسدا بلا روح، وصورة بلا حقيقة، ومظهرا بلا مخبر. فأين أخلاق الصيام والقيام؟ أين أمانة الصائم؟ أين كرمه وجوده؟ أين ورعه وتركه للشبهات؟ أين عطفه ورحمته وشفقته؟ أين حياؤه ومراقبته؟ أين صبره وتوكله؟ أين بره وإحسانه وتقواه؟
ما فائدة الصيام إذا لم ينقلنا من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن؟ وما فائدة الصيام إذا لم يردع صاحبه عن غيبة أو نميمة أو حسد أو بغضاء؟ ما فائدة الصيام إذا لم يطهر صاحبه من شرب الخمر والحشيش وشرب الدخان والتبغ وغيرها من البلايا الخطيرة؟ ما فائدة الصيام إذا كان لا يزكي الأنفس بفضائل الأعمال وأفضل الخصال، ويطهرها من الشح والبخل وسائر الدناءات؟ بل ما فائدة الصيام إذا لم تصبح حالنا الإيمانية والخلقية في يوم رمضان الثاني والثالث أفضل من اليوم الأول، وفي الثلث الثاني من رمضان أفضل من الثلث الأول وفي الثلث الأخير منه أفضل الثلثين الأوليين معا؟
إنه لا بد أن نغير جميعا نظرتنا إلى الصيام كعادة إلى كونه عبادة وقربة نتقرب بها إلى الله تعالى، ولا بد أن تتغير هذه النظرة في ضوء مفاهيم الإسلام، وما خص به في شريعة الله من فضائل وآداب وتعاليم. لا بد أن نتعامل مع الصيام بصفته عبادة من أعظم العبادات وركنا عظيما من أركان الإسلام، لا أنه عادة توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل. فلنجعل الصيام في شهر رمضان شهر الخير والإحسان مدرسة لتربية أفراد الأمة ذكورا وإناثا بكل فئاتهم على مكارم الأخلاق، ليترقوا في مقامات العبودية ودرجات الحب الإلهي، وصولا إلى رضا الله عز وجل وقيادة للبشرية بالخلق الرباني الرفيع والتمكين في الأرض.أسأل الله تعالى أن يبلغنا جميعا مقام الصديقين المخلصين والشهداء. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. عبد اللطيف احميد الوغلاني