لا أجد أمة نُبهت إلى خطر الفتن كما نُبهت أمة الإسلام، ولا شعوباً حُذرت منها كما حُذرت الشعوب المؤمنة؛ سواءً أكانت تلك الفتن صغيرة أم كبيرة تموج موج البحر، وسواء أكانت شيطانية أم إنسانية، وسواء أكانت من ذات أنفسها أم من أعدائها.. والفتن في خطورتها تكون كالنار، ولهذا عرفها الخليل بقوله: ((إن الفتن إحراق الشيء بالنار))، ولهذا يقال: ورق فتين؛ أي محترق، وقد قال القرآن الكريم فيها: {والفتنة أشد من القتل}(البقرة:191)، وقال الراغب الأصفهاني: الفتنة في العباد هي البلية والمصيبة والعذاب والقتل، وقال غيره: الفتنة هي التسليط والقهر كقوله تعالى: {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا}(الممتحنة:5)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من قهر الرجال: ((وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). وقد حذر القرآن والسُّنة من فتنكثيرة، سنتعرض لاثنتين منها فقط.
الأولى: فتنة المسلمين بعضهم مع بعض، وقد حذر الإسلام منها أشد التحذير فقال تعالى: {واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}(الأنفال)؛ لأن الفتن ستكون شديدة الوطأة والوقع على الأمة، بحيث إن تمكنت منها قضت على الأخضر واليابس، وأصابت الكل بشررها ونارها، فأمر القرآن بتجنبها وتحاشي أسبابها، فإن وقعت، فالصبر حتى تنجلي، والثبات حتى تنقشع، {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}(الفرقان:20)، ثم يتحاشى السير فيها، والانخراط في موجها وزخمها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به))؛ أي من تطلع إليها وتعرض إليها أتته ووقع فيها، وذلك أمر يحتاج إلى بصيرة وعمل؛ لأن الفتن لا تنقشع إلا بالأعمال الطيبة، كالعدالة ورعاية مصالح الرعية، والتقوى وغير ذلك من الأعمال التي تمنع الكوارث والمظالم، وإلا دخلت الشياطين للإفساد وذهبت التقوى وكثر النفاق والضياع وهانت الدماء والأعراض.. روى الترمذي ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)). ولا شك أن هناك رجالاً أصحاب بصائر وعقول يعرفونها يقفون كالجبال في وسط رياح الفتن، لا تهزهم أعاصيرها ولا تزحزحهم صواعقها.. روى أبو داود عن حذيفة قال: ((ما من أحد من الناس تدركه الفتنة إلا خفتُ عليه منها، إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ((لا تضرك الفتنة)).. وقد كان هناك رجال في تاريخ الأمة كالشموس تنجليعنهم كل فتنة عمياء، يعرفون رياحها ونذرها، فحصنوا أنفسهم ضدها، وتسلحوا لمقاومتها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يبين الطريق للسالكين فيقول: ((تعرض الفتن على أمتي كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)). نعم، هناك رجال يملأ الإيمان قلوبهم وينير بصائرهم، فلا يقعون في الفتن، وهناك آخرون تحركهم الشهوات وأشياء كثيرة، وهم الذين يحرقون الأمة ويجهزون الشعوب للضياع.
أما الفتنة الثانية، فهي فتنة الأعداء المشار إليها بقوله تعالى: {ربنا لاتجعلنا فتنة للذين كفروا}(الممتحنة)، وهي المرادة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها))، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن في قلوبكم الوهن))، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).. وهذه فتنة لغلبة الأعداء وتسلطهم على المسلمين وقهرهم واستباحة بيضتهم وأرضهم، وهي فتنة كبيرة، وهناك فتنة أخرى أشارت إليها الآيات، وهي فتنة الكافرين بصدهم عن الإسلام بأعمال المسلمين، حينما يعتريهم الهوان وتضل أعمالهم وتتلوث سيرتهم ويتمكن الباطل منهم ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان، فيقول الكافرون: لو كان هذا الدين حقاً ما صار أصحابه إلى ما صاروا إليه، فيكون في هذا صد عن سبيل الله وعن انتشار الإسلام. والأمة الإسلامية اليوم مصابة بهذه الآفات المهلكة، وعليها مزيد، فهل تستطيع أن تنقذ نفسها، أم أنها عميت وكلت ووهن القلب وضاع العزم؟
وإذا البصائر عن طرائق رشدها
عميت فماذا تنفع الأبصار؟
يغش الفتى حب الحياة وزينة
الدنيا وينسى ما إليه يصار
وهذه الأيام تغشى العالم الإسلامي كله فتنة، وتلفه سحابة قاتمة من دواهٍ ليس لها من دون الله كاشفة، وذلك بسبب ضرب “مركز التجارة العالمي” ومبنى “البنتاجون” بأمريكا، ولا أحد يستطيع أن يبرر قتل الأبرياء والآمنين والعزل، فتلك جريمة لا شك فيها بصرف النظر عن ظلم أمريكا وانحيازها لليهود ومساندتها للأنظمة الفاسدة التي أثارت عليها الكثيرين، وحتماً يجب أن يحاسَب المتسببون في هذه الكارثة، ولكن ينبغي ألا يؤخذ البريء بذنب لم يقترفه، وألا يتخذ هذا مبرراً لتصفية حسابات معينة وزيادة المظالم، وبالتالي يعمد الكثيرون من الأعداء إلى إباحة الدماء وزيادة القهر والظلم، كما يفعل اليهود الآن في فلسطين، كما يعمد كثير من الحكام والسلطات الفاسدة إلى استغلال الموقف لضرب معارضيها منالسياسيين والإسلاميين، بل ربما يمتد الأمر إلى ضرب الإسلام نفسه في ديار المسلمين وغيرها، تحت ستار ضرب الإرهاب، فيكون هذا هو الإرهاب الأكبر بعينه، ولن يزيد الأمر إلا اشتعالاً. وفي هذا الوقت نسمع الكثير من العقلاء يستنكر ما وقع من إرهاب في أمريكا وغيرها في العالم، ويقول: يجب أن ينال الجاني العقاب الرادع ولكن نقول: حذار أن يستغل ذلك لضرب المخلصين البرآء من الوطنيين والمسلمين، وأن تؤدي هذه الكوارث إلى مساندة الظلم والظالمين، وإلحاق الأذى بالأبرياء المسالمين، وإلا فلا يعلم أحد إلا الله ما سيكون عليه حجم الفتن التي ستعصف بالإنسانية، ولن ينجو منها أحد، وأفضل ما يجب أن يكون أن تراجع المظالم، وأن يوضع الأمر في نصابه، وألا تستغل الفواجع لزيادة الكوارث، وأن تبتعد الإنسانية عن تلك المظالم التي تزكم الأنوف، وأن يتراحم الناس بدل الشقاق والقتال:
إني لأرحم حاسدي لحر ما
ضمتصدورهم من الأوغار
جحدوا صنيع الله بي فعيونهم
في جنة وقلوبهم في نار
والله نسأل أن يحفظ الجميع، ويسود العالم الأمن والسلام.. آمين آمين.
د. توفيق الواعي