افترض عالم النفس المعروف (يونغ) أسوة بـ (فرويد) ما سمّاه أيضاً ” اللبيدو “. لكن اللبيدو عند يونغ كان مختلفاً تماماً مما هو عليه عند فرويد. فاللبيدو عند يونغ قوة حياتية أساسية ثابتة، ومنها تشتق أو تنبع كل الغرائز: ففي الرضيع تتخذ شكل غريزة الغذاء لكنها لا تتخذ الشكل الجنسي إلاّ بعد ذلك بوقت طويل. وقد أنكر يونغ كون اللا شعور منطقة تقطنها الرغبات التي جرى كبتها بنتيجة الصراع. فاللا شعور عنده نتيجة للنمّو العقلي الانفرادي لدى الفرد. وقد قسم يونغ الناس إلى فئتين رئيسيتين بالإضافة إلى تقسيمات جزئية أخرى، وهما الانبساطي والانطوائي. ففي الشخص الانبساطي يكون الحسّ متطوراً أكثر من الفكر، وفي الانطوائي يكون الفكر متطوراً أكثر من الحس، وفي كلتا الحالتين تميل الطاقات المهمة لأن تصبح لا شعوراً. والآن، إذا واجه الانطوائي حالة تتطلب حسّاً أكثر مما تتطلب فكراً، تولدّ لديه صراع يمكن أن يؤدي إلى العصاب. وهذا هو نفسه ما يصيب الانبساطي عندما يواجه موقفاً يتطلب فكراً أكثر مما يتطلب حسّاً. لذا فإن يونغ لم ينظر إلى حياة المريض الماضية من أجل التعرّف على أسباب عصابه، بل حاول أن يكشف عن ماهية الموقف الحاضر الذي يتوجس منه المريض لينتقل من ثم إلى تحفيز تلك العناصر المدفونة في لا شعوره والتي من شأنها أن تجعله قادراً على معالجة الموقف. ومن الطبيعي أن يقدم يونغ بالاستناد إلى هذه النظرية تفسيرات للأحلام تختلف كلية عن تفسيرات فرويد كأن يرى بأن الأحلام تكشف وضع اللا شعور حيال مهمات الحياة.
أما تفسير أدلر، الذي ينتمي إلى المدرسة نفسها، فهو أيضاً مختلف، حيث يرى أن المحرك الذي يسيّر حياة الفرد يتمثل في الحافز الذي يدفعه لاكتساب القوة والتفوّق على من حواليه. ولقد تمكن أدلر انطلاقاً من هذه النظرية، من تقديم تحليلات لها من الشمول والقدرة على الإقناع ما للتحليلات الصادرة من نظريات مختلفة بالكلية!
وهكذا فإننا جميعاً نعرف ذلك الشخص الضعيف الذي يكبت رغبته في اكتساب القوة والتفوق بالوسائل العادية، ويستعمل عجزه نفسه ليسيطر ويطغى على أفراد عائلته. وحيث وجد فرويد مضموناً جنسياً في التخيّلات العصابية، فإن أدلر لم يجد صعوبة في أن يجد في تلك التخيّلات مثالاً آخر لإيضاح نظريته حول الرغبة في القوة. وقد تجاهل أدلر فكرة اللا شعور ولم يستفد من استعمال مفهوم الكبت. وهكذا لم يعد لأدلر أي وجه للشبه مع المحلل النفسي على الرغم من أنه نفسه بدأ محللاً نفسياً، ذلك أنه رفض الأسس ذاتها التي بنيت عليها نظرية فرويد.
ويخلص سوليفان إلى القول بأنه يمكن إيراد المزيد من عقائد أخرى انشقت عن نظرية فرويد. والحقيقة أن عروض التحليل النفسي تنافس المسيحية جيداً في عدد طوائفها، وكل طائفة من طوائف التحليل النفسي تدعّي لنفسها، مثل طوائف المسيحية، نظرة شاملة وواقعيـة، وتشير إلى قائمة من العلاجات الروحية والجسمانية لإثبات كفاية تعاليمها وصلاحيتها. إن أي شكل من أشكال التحليل النفسي لا يمكن اعتباره في وضعٍ مرضٍ كعلم، ولا يمكنه اللجوء إلى النتائج من أجل إثبات النظرية لأن هذه النتائج، أي العلاجات التي يقدمها (التحليل النفسي) يمكن بنفس الدرجة تقريباً الحصول عليها من خلال نظريات مختلفة كلية. لذلك لا يمكن الحكم على هذه النظريات من خلال النتائج. ويتبع ذلك أن هذه النظريات يمكن فقط الحكم عليها بالاستناد إلى احتمالاتها الأولية. وهنا تواجهنا صعوبات تتمثل في أن كل أشكال التحليل النفسي تظهر محتملة بدرجات متساوية تقريباً. وربما وجب التفريق لمصلحة تلك النظريات التي تأخذ بفكرة اللا شعور وذلك في مقابل تلك التي تنبذ هذه الفكرة. إن مفهوم اللا شعور مفهوم مهم بالتأكيد لكنه وجد قبل التحليل بوقت طويل. وهكذا فإن كون التحليل النفسي قد أدخل شيئاً جديداً هو موضع جدل ونقاش.
والنتيجة التي ينتهي إليها سوليفان أنه ليس في نظريات علم النفس كافة شيء من شأنه أن يغيّر جدياً في قناعتنا بأن هذا العلم لا يمكن اعتباره علماً حتى الآن. وللمعارف الأخرى أيضاً مثل علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك بعض النواحي التي لا تعتبر مرضية من وجهة النظر العلمية.
والعلم هو أقوى ما يكون عليه عندما يتناول العالم المادي، أما مقولاته في المواضيع الأخرى فتعتبر نسبياً ضعيفة ومتجلجلة. وهي نفس النتيجة التي ينتهي إليها الكسيس كاريل في (الإنسان ذلك المجهول): إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حد ما.. أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً.. فتكاد تكون مستحيلة، والنتيجة التي نصل إليها في هذا المجال “ضعيفة ومتلجلجة”.
ومن قبل سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح: معجزة الإنسان، وسرّ العقل، ومفتاح الحياة، فأجاب القرآن عنه: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً}.. صدق الله العظيم.
أ. د. عماد الدين خليل