القراءة عبر التاريخ
موضوع القراءة موضوع تناولته مختلف التخصصات، والدراسات منذ أقدم العصور، ذلك لأن الفعل القرائي كان أول مؤشر على تميز النوع البشري عن غيره من أنواع المخلوقات. وأكثر من ذلك يعتبر الفعل القرائي المؤشر على تميز ما يسمى بإنسان الثقافة عن إنسان الطبيعة. ومع أن هذا التقسيم له خلفية عنصرية، ولا يستقيم أمام النظرة العلمية، فإنه يحيل على أهمية الفعل القرائي كمؤشر بموجبه تصنف البشرية إلى قارئة، وأمية لا تقرأ. والفعل القرائي له أهميته في الديانات السماوية إذ بعث الله عز وجل رسله وأنبياءه للناس بالفعل القرائي الذي مكن البشرية من إدراك العلاقة بينها وبين الوجود، وموجد هذا الوجود.
ودائما يقف الناس عند أو ل ما نزل من آخر رسالة سماوية، وهو عبارة عن أمر بالفعل القرائي، الشيء الذي يعني أن آخر رسالة سماوية كأولها لا يمكن أن تستوعب إلا عبر الفعل القرائي. فقول الله عز وجل : {اِقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم}، فيه إشارة إلى الفعل القرائي الذي من أجله خلق الإنسان، باعتبار سياق هذا النص، وإلى فعل الكتابة أو الخط المرتبط جدليا بالفعل القرائي، إذ لا يمكن الحديث عن الفعل القرائي بمعزل عن فعل الكتابة. والقراءة مصدر من فعل قرأ، يقرأ، قرءاً، وقراءة، وقرآنا إذا نطق الإنسان بالمكتوب، أو ألقى النظر عليه.
واستقراء الله عز وجل الإنسان، وهو طلب القراءة إليه يستدعي الإحالة على المكتوب، وهو الرسالة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسالة المكتوبة من مصدر الكتابة، وهي من فعل كتب يكتب إذا خط المكتوب، أو حوله من منطوق إلى مكتوب. فطبيعة آخر رسالة سماوية أنها أنزلت منطوقة، فتحولت بأمر الله تعالى أو باستقرائه للخلق إلى كتابة من أجل تحقيق فعل القراءة. ولقد كانت القراءة عند رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي قراءة سماعية، حيث مارس الفعل القرائي من المنطوق، وليس من المكتوب أو المخطوط، وكان ذلك معجزته كآخر رسول يدعو إلى القراءة، وهو أمي لا يقرأ من المكتوب بل من المنطوق.
ولم يقتصر الأمر الإلهي على دعوة الناس للقراءة بل أقرأهم،أو علمهم الفعل القرائي كما جاء في قوله تعالى : {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}، ولكن مع تحديد كيفية القراءة في قوله تعالى : {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}. فرسول الله صلى الله عليه وسلم مارس الفعل القرائي بالاعتماد على المنطوق من لدن أمين الوحي جبريل عليه السلام، وبلغه كما قرأه، ليقرأ باعتماد منطوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جهة، ومن جهة أخرى ليقرأ بعد ذلك مكتوبا أو مخطوطا. وقد تعهد الله عز وجل بصيانة الفعل القرائي النبوي الذي يعتمد الملفوظ أو المنطوق، وهو ما يعرف في مجال البيداغوجيا بمهارة الاستظهار أو الاسترجاع، وهي مهارة أساس من أسس كفاية القراءة بمعناه المعقد. ولما كان الفعل القرائي الذي يعتمد المنطوق يعول على حاسة السمع دون حاسة البصر كما هو حال الفعل القرائي الذي يعتمد المكتوب والمخطوط، فإنه معرض للنسيان، وهي آفة الإنسان الكبرى.
لهذا تعهد الله عز وجل بحفظ رسوله الكريم من هذه الآفة. ولا يمكن مواجهة هذه الآفة إلا بواسطة الفعل القرائي الذي ينطلق من المكتوب أو المخطوط. وإذا كان الفعل القرائي المعتمد على المنطوق محدودا في الزمن، فإن الفعل القرائي المعتمد على المكتوب يتحدى الزمن، لهذا فكر الإنسان الأول في الكتابة بدءا برسم الرسوم، وانتهاء برسم الحروف التي حلت محل الرسوم مع تطور الإنسان. واستطاع اللاحق من البشرية أن يتعرف على السابق منها بالاعتماد على الفعل القرائي الذي يعتمد على المكتوب أو المخطوط.
انعكاس الفعل القرائي على الشخصية
ولما كانت لغة الإنسان حمالة ثقافة، فإن رسمها كحروف ينقل معها حمولتها الثقافية ، وهو ما يعني أن الفعل القرائي المرتبط بالحروف المرسومة أو المخطوطة يعكس شخصية الممارس لهذا الفعل سواء كانت شخصية فردية أم جماعية. فالفعل القرائي يصدر عن قدرة معنوية في الإنسان مرتبطة بذكائه حيث يدرك العلاقات الخطية للحروف خلال تعرفه عليها، وتجميعها سواء على المستوى البصري، أم على مستوى النطق بواسطة خلق التناسقات بينها. والفعل القرائي بصريا يعتمد مؤشرات البياض الغرافي الطباعي الفاصل بين الحروف المترابطة فيما بينها في تناسقات معينة، والمنفصلة عن بعضها في تناسقات أخرى، كما يعتمد الفاصل الزمني سمعيا، وهي تناسقات تكون مجموعة اتصالا وانفصالا الدلالات والحمولات الثقافية.
وقراءة ما خطته الأجيال البشرية في الماضي يفضي إلى معرفة مستوياتها المعرفية والثقافية، ومن ثم إلى معرفة مواصفاتها النفسية والاجتماعية حتى لا أقول الأنثربولوجية (نسبة إلى علم الأنافة أو علم الثقافة)، وهي تسمية لا تخو من عنصرية حيث يرفع الإنسان الحديث من قيمة ثقافته على حساب ثقافات من كان قبله، ويتعامل مع ثقافات غيره، كما يتعامل مع باقي المخلوقات التي لا تمارس الفعل القرائي، أو غير المؤهلة لذلك طبيعة وجبلة. ولقد عرفنا الشيء الكثير عن شخصيات الأمم الموغلة في القدم من خلال آثارها المخطوطة، خاصة بعد استعمال الإنسان للحروف التي يتهجاها لسانه. وعن طريق اتجاه الخطوط يمينا وشمالا، ومن الأعلى إلى الأسفل استطاع الإنسان أن يعرف بهندسة الشخصية البشرية.
وعن طريق أشكال الحروف من حيث الرسم، والمتحكمة في الفعل القرائي ترتسم شخصية الإنسان الباطنة. وكما أن الإنسان يحرص في الفعل القرائي المعتمد على المنطوق على جودة الأداء، فإنه يحاول تضمين ما يخطه هاجس هذه الجودة. ويبدو الأمر في غاية الوضوح بالنسبة للقرآن الكريم الذي يجود من حيث الفعل القرائي، ومن حيث الفعل الكتابي أيضا حتى استطاعت أشكال الحروف، وما يصاحبها من علامات أن تعكس جودة الفعل القرائي. فالتغني بالقرآن، يوازيه التفنن في رسمه وكتابته.
وعلى غرار التوازي بين الفعل القرائي في القرآن الكريم، والفعل الكتابي، يحاول الإنسان أن يحافظ على التوازي في باقي أفعاله القرائية مع طبيعته وشخصيته من خلال الحرص على تجويد الفعل القرائي، تماما كما يحرص على تجويد وتطوير وجوده وشخصيته. والفعل القرائي الفردي تتم مراكمته ليصير فعلا قرائيا جماعيا يعكس نفسية وشخصية الجماعة، كما يعكس في نفس الوقت نفسية وشخصية أفرادها.
فكل السلوكات والطباع البشرية والسجايا إنما ينقلها الفعل القرائي للإنسان. فنحن نعرف شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من خلال ما نقرؤه عنه. فما نراكمه من فعل قرائي يتعلق به يصور لنا شخصيته. وعلى غرار نموذج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاس البشرية. فمن خلال الفعل القرائي المتعلق بإنسان ما نستطيع أن نصنفه ضمن سلم القيم البشرية التي نجعلها عائلات لها مواصفاتها الخاصة. ولهذا السبب يعمد في الغالب إلى نوع المقروء في مجتمع من المجتمعات لمعرفة طبيعة هذا المجتمع النفسية والاجتماعية. فيكفي أن نقوم بدراسة ما يقرأ الناس في زمن معين، وفي بيئة معينة لنحكم على طبيعتهم من خلال شبكات تصنيف القيم الإنسانية المتعارف عليها إيجابية كانت أم سلبية. والعلاقة تكون جدلية بين الجماعة وبين الفعل القرائي، حيث يتأثر كل منهما بالآخر، ذلك أن سلوكات الجماعة تتعدل، وتتكيف مع المقروء، كما أن هذا الأخير يتكيف أيضا مع طبيعة الجماعة. وليس من قبيل الصدفة أن يأمر رب العزة جل جلاله رسوله الكريم بالقراءة المحكومة بشرط المكث في قوله تعالى : {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}، فالمقروء هنا ثابت مفارق للمقروء البشري المتغير، لهذا حرص الله عز وجل على فعل قرائي دائم ومستمر لكتابه الكريم ليظل الإنسان على فطرته مع تغير أحوال المعاش، وظروف المكان والزمان المحيطة بالإنسان.
ولهذا نجد أجيال المقروء القرآني تتكرر بنفس المواصفات النفسية والاجتماعية، باعتبار صفة الثبات في المقروء، وهو كتاب الله عز وجل أو رسالته للبشر، في حين تعرف غير هذه الأجيال تغييرا مستمرا باعتبار فعلها القرائي الذي يتعامل مع المقروء البشري المتحول، والمتأثر بالظروف زمانا ومكانا. ومع تأكد دور الفعل القرائي في تكوين شخصية الفرد، والمجتمع، نجد الكثير من الناس يغفلون عنه، وبذلك يهملون أهم ما يصنع الشخصية الفردية والجماعية. وهذه الغفلة قد تكون عزوفا كليا عن الفعل القرائي، أو توجها مقصودا نحو فعل قرائي بعينه، يكون القصد من ورائه تكييف السلوك البشري الفردي، والجماعي من أجل التحكم فيه ، وتوجيهه نحو أهداف وغاية ربما تكون مخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله عز وجل.
ويتنوع ثأثير الفعل القرائي في الإنسان حسب نوعية هذا الفعل الذي صار يصنف عشرات التصنيفات باعتبار الغايات والأهداف من ورائه. لهذا نجد الفعل القرائي الفردي، والجماعي، والسماعي، والصامت، والبصري، والمعبر، والمفسر، والمسترسل، والقصير، والمنهجي… إلى غير ذلك من التصنيفات التي تفعل فعلها فيمن يمارس الفعل القرائي انطلاقا منها. وأخطر أنواع الأفعال القرائية هي تلك المرتبطة بالمجال التربوي والبيداغوجي لأنها مرتبطة بالناشئة التي تبنى شخصياتها عن طريق هذه الأفعال القرائية القوية والشديدة التأثير في هذه الناشئة. فكم من شخصية صنعها الفعل القرائي في المجال التربوي والبداغوجي. ولهذا ليس من قبيل الصدف أن تركز التربية الإسلامية أو البيداغوجيا الإسلامية على الفعل القرائي المرتبط بكتاب الله عز وجل لدى الناشئة لتكريس الفطرة عندهم قبل أن يخضعوا للأفعال القرائية الخاصة بالمتحول البشري، المقابل للثابت الإلهي، والصارفة عن هذه الفطرة.
د. محمد شركي(ü)
—
(ü) مفتش تربوي بأكاديمية الجهة الشرقية