نعم كثيرة يرفل فيها الإنسان ما أدى شكرها، ولا زالت تفتح له أبواب البركات في أوقات وأزمنة معلومات وغير معلومات يسبغ عليه فيها ربه عطاء غير مجذوذ، وتسبق له منه المنة والعناية والفضل. هي بركات في الأوقات والأعمار والأعمال والأبدان تنجلي للمتقين الأخيار منح مواجيد وأشواق حرَّى تتقد بالقلب فتحركه للكسب الجاد وتكسو الجوارح بهبة نشاط العزم وصدق الهمة المستمدة من الثقة بالمولى وعطائه.
هي مواقيت ينفع فيها الصادقين صدقهم، فمن صدق فيها مع ربه في خلواته وجلواته لا يخرج منها صفرا مفلسا، وإنما تقدح شرارة الفتح على قلبه فيزداد قربا وارتقاء في مدارج الاصطفاء، فيلحق بزمرة الفائزين، وتشمله فيوض منح تدهش الألباب، فقد آل على نفسه ألا يحبس روحه الولهى في نتن حمإ مسنون، فأطلقها ترفرف في فضاء القرب في سفر في غير قطع المسافات، وإنما هو سفر في اختراق أسرار المعاني وتصاعدها في أفق التأمل لاقتباس أنوار فيوض المنح وخرق حجب الغفلة بالانتباه والعمل واليقين.
تلكم الفيوض يا سادة امدادات لا تشملنا الا على قدر الاستعداد الخالص، فقد قال ابن عطاء الله السكندري: ورود الامداد بحسب الاستعداد وشروق الأنوار على حسب صفاء الأسرار”. فالله تعالى يفتح على عباده بركات من السماء والأرض وما يلاقاها الا الذين اطلع سبحانه على قلوبهم فوجدها خالية من غيره، سرائرها خالصة له .
ومن اجل الفيوض فيض رمضان الأغر وما تبث فيه من رحمات وما تضيئه من أنوار وما تعطى فيه من فرص الترقي لا تعطى في غيره من الشهور، فقد قال النبي : «أتاني جبريل فقال: يا محمد، مَن أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفَرْ له، من أدرك شهر رمضان فانسلَخ فلم يُغفَر له، فأبعَده الله، فقلت: آمين».
فقد أمَّن النبي على دعاء جبريل تحذيرا من جسامة الخسران وإعلاما بجزيل عطائه سبحانه في هذا الشهر وتنبيها الى وجوب التعرض لنفحاته الغزيرة التي من عمي على فيوضها ضربت دونه الحجب والأسوار، وسلبت منه البصائر والأسرار.
وأنى لسالك فيه الوصول الى المطلوب إلا بقطع العوائد والعوائق والعلائق، فتحرير القلب والنفس والبدن من عوائد السكون والدعة والراحة والخمول، والاكثار من النوم والركون الى الكسل.
ومن عوائق مخالفات أوامر الله وأوامر رسوله التي تعوق القلب فتقطع عليه سيره الى الله، وتثبطه عن الفرار الى ربه.
ومن علائق الهوى وحب الدنيا والشهوات والتعلق بالأغيار، وما يصرف عن الله تعالى.
“فلن يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ولن يرحل الى الله وهو مكبل بشهواته”.
فنحن في سيرنا – كما قال ابن مسعود رضي الله تعال عنه-:” في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من أعطي خيرا فالله أعطاه، ومن وقي شرا فالله وقاه”.
فلا وقاية ولا نجاة الا بالفزع الى حصون القرآن فرمضان شهر القرآن فيه أنزل، فنقبل عليه تلاوة وحفظا وتدارسا عسى ان تتنزل علينا خصائص فهوم، وصدق تأملات، وتجليات أنوار، فتلبسنا حلله ويمن علينا بأن نصطف مع أهل الله وخاصته، أهل القرآن الذين مدحهم بقوله سبحانه: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (فاطر: 29-30).
ونسلك فيه نهج النبي : فقد “كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضانَ حين يَلْقاه جبريل فيُدارسه القرآن، وكان جبريل يَلْقاه كلَّ ليلة من رمضان، فيُدارِسُه القرآن، فَلَرسولُ الله حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الرِّيح المرسَلة”.
ولنتواصى بعقد العزم على أن تكون عباداتنا في رمضان مختلفة عن غيره من الشهور، ونتعاهد على اغتنام المنح فيه، ونحذر كذب القلب ان يبرم العهد ثم ينقضه أنكاثا. أو أن تكون الهمة فورة لحظة وخمود سنة.
وليكن همنا فيه طموح دائم في عبادات وقربات أكثر وأفضل، وحرص على التواصي بالحق والتواصي بالصبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى امتلاك أزمة المبادرة، ونجعله موسم تغيير واستشفاء وتأثير واغتنام.
حتى إذا اشتد بنا العطش في لفح رمضاء الهجر ومسالك قفار الزلل، وأيقنا الهلاك رشح غيم المن برذاذ العطاء فيوض منح تسوقنا الى رياض الله العامرة.
دة. رجاء عبيد