يظهر من تقدم المجتمعات والأمم أن حضور الصناعة أمر لازم في كل حركة في اتجاه الأحسن، وكلما اتجه الفعل الصناعي نحو أصول الصناعات ومبادئها نظرا وتطبيقا تحقق المقصود واختصرت الجهود، وأدركت الأمم المعاصرة قيمة الصناعات وبالأخص الصناعات التي يصطلحون عليها بالصناعات الثقيلة أو الصناعات التحويلية التي تقوم بتحويل المواد الخام المهملة في الكون إلى مواد قابلة للتوظيف والاستخدام الأمثل.
لكننا كثيرا ما نَغْلط أو نُغَلَّط ونُغَلِّط أيضا حينما نحصر تقدم هذه الأمم في حسن تدبيرها لهذا المجال المادي، غافلين عن أن الصناعة الثقيلة لا ولن تتحقق إلا إذا سبقتها صناعة أسبق منها في الزمان وأثقل منها في الميزان: إنها صناعة الإنسان، وتحويل طاقاته الخام الكامنة فيه إلى طاقات قابلة للتوظيفات المحمودة والاستعمالات المعقولة.
إن التأسيس لمجتمع قوي صناعة وفلاحة وتجارة يحتاج إلى إعداد وتأهيل علماء في العلوم المادية للاقتدار على الإبداع العلمي، ويحتاج الأمر قبل ذلك إلى إعداد علماء في التخطيط الإداري والتدبير، ويحتاج قبل كل ذلك إلى تكوين الإنسان وتأهيله أخلاقيا وتربويا تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا في كل المجالات والميادين والتخصصات، وهذه هي الصناعة الأثقل!
نعم إن تقدم المجتمعات رهين باعتماده على مشاريع الصناعات الثقيلة وتوابعها، ولكن هذا الأمر ليس إلا نتيجة لعمل أقوى وأقوم، ولجهد أكمل وأمثل وأثقل إنه جهد صناعة الرجال وصناعة الرواحل، وتكوين العقول المفكرة بالحق وفي الحق، والألسنة المعبرة بالخير وعن الخير، والأيادي المسخرة للتدبير الأفضل بالإخلاص والصدق.
كل أمة لا تقوم نهضتها ولا تستمر في وجودها وتقدمها إلا بوجود رجال أقوياء أمناء، علماء عاملين في كل التخصصات والمجالات، يحملون همها بروح من الوعي العميق والغيرة الحكيمة والصبر الدؤوب.
وكل أمة سلكت مسلك البحث والتنقيب عن الثروة البشرية وإعدادها للصناعة التحويلية، أدركت مبتغاها في تحقيق الصناعات المادية الثقيلة، وفي حياة الكرامة والفضيلة والعزة.
إن أمتنا تعاني اليوم من تخبط شامل في تلمس الطريق نحو المستقبل: تخبط يعكسه حجم الهدر داخل جسم الأمة؛ فهو جسم لم يعد قادرا على هضم وتمثل وتحويل ما يدخل فيه من عناصر، فالطاقات البشرية عندنا معرضة للإهمال والحرمان من الرعاية والعناية ومن كل أنواع الخير والنعمة، نقذف بها للشوارع تفتك بها المخدرات وتعرضها للسخط والنقمة، والضياع والتضييع، والميوعة والتمييع، والتفسخ والتحلل، والتسول والتذلل!!
وإنه لعمري لفشل ذريع، ولخطب مريع، أن تعجز الأمة طيلة قرون عن التأسيس للصناعات الأثقل لتخريج الجيل الأمثل تصورا وتصرفا، والأصلح تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا.
إننا لن نخرج من ظلمات هذه الهزائم إلا بإخلاص النوايا وصدق العزائم، ولن ننجو من المهلكات ونتجاوز التحديات إلا إذا امتلكنا قوة الإرادات، ولن نُمَكَّن من اللحوق بالأمم إلا إذا اشتغلنا بتكوين أولي النهى والحزم والعزم وعلو الهمم. ولن نهتدي إلى الطريق الأقوم ما لم نعُدْ للاشتغال بالرواحل، ولن نزداد هدى ما لم تكن صناعتنا البشرية على هدى من وحي الله عز وجل وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم في تربية جيل الصحابة؛ ذلك المنهج الذي كانت الأولوية فيه للصناعات الأثقل قبل الصناعات الثقيلة، والتحويلية الإحيائية قبل الاستهلاكية