من ضوابط التعامل مع أقوال العلماء وأفعالهم في المنهجية الإسلامية


من فضائل الإسلام وخصائصه أنه دين محفوظ، ومن مظاهر حفظه أنه المعيار والحاكم على أقوال الخلق وتصرفاتهم، وليسوا هم المعيار ولا الحاكمين عليه، وهذا المقال إطلالة وجيزة نستبين بها المنهجية الإسلامية فيما يجب أن تكون عليه مواقفنا من أقوال الناس وأفعالهم، وانتماءاتهم، كيف نفهمها ونتعامل معها ونقيمها؟ وكيف نرى أنفسنا وشيوخنا ومذاهبنا وانتماءاتنا؟
والسبب الداعي إلى تناول هذه المسالة -على بداهتها- وقوع البعض في شبهة علمية وخطأ منهجي خلاصته: التقديس والتعظيم الحاصل من البعض تجاه الفضلاء من العلماء والأئمة والمصلحين والصالحين، والتيارات والانتماءات، تقديسا أفضى إلى التعصب تعصبا فيه من الحدة والشدة ما لا يليق بمسلم الوقوع فيها.
ولسنا نُحرِّجُ على المسلم الانتماءَ لمذهب فقهي، أو توجهٍ إسلامي، أو منحى فكري، ما دام ذلك موافقا للإسلام خادما لدعوته المباركة، محققا لمصالح الناس.
معايير منهجية ضابطة:
إذا جوَّزنا للمسلم الانتماء لمذهب أو شيخ أو تيار إسلامي، فلابد مع ذلك من إدارك هذه الجملة من القواعد المنهجية الضابطة:
1 – لا قول لأحد مع قول الله تعالى وقول رسوله : وقد حذر السلف من عاقبة تقديم آراء الرجال على نصوص الوحي الشريف، ولو كان هؤلاء الرجال من الفضلاء العلماء، فقال عبد الله بن عباس : “يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر”، وكذلك نبه الإمام أحمد لهذه المسألة بقوله: “عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النور: 63)، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك”.
2 – لا عصمة إلا للمعصوم : فكل فاضل عرضة للخطأ والوهم، بل ربما ركب مركب الهوى، فلا ينبغي أن يحملنا الحب والإجلال لفاضل على اعتقاد براءته من الخطأ، ولذا ينسب لابن عباس ومجاهد والشعبي ومالك رحمهم الله جميعاً قولهم: “ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك من قوله إلا النبي “، ومع ذلك فلا ينبغي أن تهدر فضائل ذوي الفضل لشيء صدر منهم، وفي ذلك كلام نفيس لابن القيم في “إعلام الموقعين” يقول فيه: “ومَنْ له علم بالشرع والواقع يَعلم قطعا أن الرجل الجليل الـذي لـه في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة، وهو مِنْ الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفـوة والزلّة، هو فيها معذور؛ بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجـوز أن يُتبع فيهـا، ولا يـجوز أن تُـهدر مكانتـه وإمـامته ومنـزلته من قلوب المسلمين”.
3 – لا تؤمن الفتنة على حي: فقد يُفتنُ غدا صالح اليوم، وقد يضل غدا مهتدي اليوم، والرجل المعظم بين الناس لعلمه وفضله وصلاحه الظاهر لا ينبغي أن نقلده ديننا ما دام حيا، ففي الحلية لأبي نعيم، عن عبد الله بن مسعود قال: “لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة”، وفيها كذلك عن عبد الله بن عمر قال: “من كان مستنَّاً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد “.
4 – التزام فضيلة التوسط في معاملة الفضلاء، فالمسلم يحب العلماء ويعرف حقهم ويعاملهم بما يليق بمكانتهم بلا تقديس ولا تبخيس، فلا يرفعهم إلى غير مكانهم ومكانتهم، ولا ينزل بهم إلى ما لا يليق بهم، وفي الحكمة: “خير الأمور أوسطها”.
5 – الخير والحق موزع بين طوائف المؤمنين: مساحة الحق والخير واسعة، ولا توجد طائفة من المسلمين تمتلك الحق دون سواها، والمسلمون جميعا على اختلاف طوائفهم فيهم خير وشر، وحق وباطل، وما يُحمدُ وما يُذم، ولم يجتمع الخير كله دون شر إلا لمحمد ، والمسلم يزن الناس بميزان عدل، وقد قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: “ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا و فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وُهِبَ نقصه لفضله).
6 – الإنصاف في الحكم على الآخرين: من انتمى لتوجه أو لشيخ ما، أو لحركة أو مذهب فلا ينبغي له أن يجور في الحكم على الآخرين، أو أن يجاوز الإنصاف في النظر إليهم، كما لا يجوز له أن يمدح طريقته ومذهبه بإطلاق، ومن أعدل كلمات ابن تيمية رحمه الله تعالى كلماته في الصوفية عندما تعرض لاختلاف الناس فيهم قائلا: “طائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا أنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم وادَّعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله تعالى، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم”.
هذه بعض الإلماحات العلمية الضابطة لنظر المسلم حيال التعامل مع الأفراد والشيوخ والجماعات والمذاهب الإسلامية، والإنصاف عزيز، ورحم الله امرأ عرف الحق فسلك سبيله.

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>