إذا رجعنا إلى مبادئ الدعوة الإسلامية، التي جاءت في كتاب الله ، وفي سنة رسول الله ، وجدناها تجعل الحرية الإجتماعية للإنسان هي الأساس الذي يقوم عليه تكريمه، لأن الإنسان مكرم من الله تعالى، الذي خلقه، وخلق له العقل الذي يفكر به، والإرادة التي يختار بهما الطريق الذي يسلكه في حياته.
وبعد أن بين الله تعالى الحق وأقام عليه الحجة ترك للناس الحرية في الاختيار بين الاهتداء والضلال. قال تعالى: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر (الكهف: 29). وقال تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (الإنسان: 3).
وبعد أن توفرت هذه الحرية الإجتماعية، جاءت التعاليم التي تنظم هذه الحرية الإجتماعية، وامتن الله تعالى بإتمامها على المسلمين في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 4).
لقد جاء الإسلام فوجد تفاوتا كبيرا بينا في المجتمع العربي، وجد فيه أشرافا بالوراثة يملكون كل شيء، وجماهير الشعب الكادحة التي لاتملك شيئا، إلاقوة عملها الشاق، لتجد اللقمة التي تشبع، وشربة الماء التي تروي، وقطعة الثوب التي تستر الجسد، ومجتمع هذا شأنه، لا يمكن أن تكون فيه أخوة ومساواة بين أفراده، لهذا أعاد الإسلام تقويم الحياة الشرف، واعتبر أن الشرف ليس في ذاته أمرا يقتضي أن يفضل به إنسان إنسانا آخر، وإنما مقاييس التفاضل هو صفاء الإنسانية في الإنسان، ومدى ما يبذله من خير لمجتمعه، ومدى قربه من ربه ، وهذا هو معنى التقوى الذي يذكره القرآن الكريم في قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات:13).
وكما أن الشرف لا يدخل في تقويم الإنسان، وكدلك المال لا يدخل في تقويمه، فهو أمر عرضي، لا يرفع إنسانا بوجوده، ولا يخفض آخر بفقده، وربّ أشعث أغبر فقير لا يفظن له، لو أقسم على الله لأبره، هذا أبو ذر الغفاري يروي عن رسول الله ، فيقول: “خرج رسول الله يوما نحو أحد وأنا معه، فقال: «يا أبا ذر» فقلت: لبيك يا رسول الله. فقال: «إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» (البخاري)”. أي:المكثرون مالا هم الأقلون ثوابا إلا من أنفق المال على الناس في وجوه الخير.
إن الدين يحرص أشد الحرص على أن يؤاخي بين الناس، ويقوي وشاج المحبة بينهم، ويغرس الأخوة الفاضلة في نفوسهم، وهو يضع أنجع الوسائل لتأليف النفوس وتوحيد الجهود، فيصبح أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مكاسبهم وتباين معايشهم جسدا واحدا، كما قال رسول الله : «إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى».
إن الذين آتاهم الله حظا من البصيرة ورزقهم التفطن إلى الغايات النبيلة التي أرشد إليها الشرع الحكيم من الحض على الإنفاق والحث على الجود، لتشرق في نفوسهم الحكمة البالغة التي تستهدفها أساليب الإسلام في التنفير من الشح والبخل، والتهديد لمن صموا آذانهم واعموا أبصارهم عن إخوة لهم في الدين والوطن، الذين لا يؤدون من أموالهم حقا للسائل والمحروم، إن الله يسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، ويسر للعسرى من بخل واستغنى وكدب بالحسنى، قال تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن ياتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (المنافقون: 10) وقال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى علىها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (التوبة: 34 – 35).
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة أن النبي قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» (البخاري).
إن نظرة الغني للمال قد توحي إليه بأن العطاء يذهب بماله، وليس ذلك إلا إغواء من الشيطان. قال تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (البقرة: 267)، وقال : «ما نقص مال من صدقة» (الترمذي).
إن نفع الغني بما يبذله من زكاة وصدقة أجل وأعظم من نفع الفقير بما يعطى له قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم (التوبة: 104)، وقال تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (البقرة: 200).
إن المسلم عليه أن يؤمن إيمانا راسخا بأن خير ما يستفيد به من ماله هو إنفاقه في وجوه الخير المختلفة -فقراء ودار عجزة وطلبة حفظ القرآن والعناية بالمساجد ومساعدة المرضى- لا في جمعه واكتنازه، وإلا كان عبدا له يعيش حياته كلها حارسا له، بدون أن ينتفع منه بشيء، قال الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته
فإذا أنفقته فالمال لك
والإسلام يكره أشد الكره، أن يحبس المال في أيدي فئة خاصة من الناس، يتداول بينهم ولا يناله الآخرون. قال تعالى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر: 7).
ومن هذه الآية الكريمة نستنبط أن الملكية الفردية محترمة في الإسلام، ولكنها محددة بقاعدة لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم، ممنوعا من التداول بين الفقراء، وقد أقام الإسلام بالفعل نظامه الاقتصادي على أساس هذه القاعدة، فغرض الزكاة وهي طهارة ونماء، طهارة الضمير، وطهارة النفس من الشح وحب الذات، وطهارة للمال بأداء حقه، وقد حدد كتاب الله تعالى مصارف الزكاة في آية واحدة من سورة التوبة وهي قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله (التوبة: 60).
إن الزكاة تصرف في جهتين أساسيتين: إحداهما أشخاص لا يجدون مايكفيهم في معيشتهم، وجهة أخرى مصالح ضرورية لابد منها في إقامة الدين والدولة.
إن الزكاة بمصارفها وسيلة فاعلة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وطريقا إلى تحقيق العدل بين الناس، وإلى تأكيد حرية الإنسان وكرامته، الذي كرمه الله تعالى في قوله: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70).
ذ. أحمد حسني