تقديم:
رغم أن الثورة المصرية لم تنطلق فعليا إلا بعد نجاح الثورة التونسية وإسقاط نظام بن علي إلا أنها حظيت باهتمام محلي وإقليمي ودولي كبير، ولعل ذلك الاهتمام يرجع إلى عوامل كثيرة منها حجم وقوة الثورة المصرية وديمومتها وتعقد الوضع فيها، ولمرجعية الفاعل الأقوى في هذه الثورة وتعقد البنية السياسية والفكرية والقانونية في البلد، إلى جانب دور مصر التاريخي في المنطقة بحكم موقعها ودورها في الأمن الإقليمي والتوازنات بالمنطقة العربية والإسلامية.
فما هي تأثيرات الثورة محليا وإقليميا؟ وما هي حدود هذه التأثيرات؟ وما قوة التيار الرئيسي في الثورة ( التيار الإسلامي) في إحداث تغييرات وتأثيرات على المشهد السياسي داخليا وإقليميا؟
أولا- لتأثيرات المحلية: يلاحظ أن نجاح التيار الإسلامي في المشهد الديمقراطي يعد حدثا لافتا للانتباه وهو حدث لم يكن خفيا على المهتمين، إذ أن صعود نجم التيار الإسلامي في بلدان عربية أخرى سبق هذه المرحلة بكثير (الجبهة الإسلامية في السودان، والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، حركة حماس في فلسطين، وفي الكويت ودول الخليج ) إلا أن مرحلة الاستبداد السياسي المحلي والدولي والتواطؤ على تزوير الانتخابات والإرادة الشعبية أخرت بروز التيار الإسلامي إلى مرحلة الربيع العربي وما بعده. ويلاحظ المراقبون للشأن المصري أن التيار الإسلامي ظل مؤثرا في المشهد السياسي منذ ثورة يونيو 1952 وإلى الآن ولو بطريق غير مباشر، وأن فوزه كان أمرا طبيعيا نتيجة الماضي العريق والتجذر الشعبي للتيار والرصيد النضالي الذي اكتسبه منذ الحقبة الناصرية، وهو الأمر الذي أهله لأن يحظى بثقة المواطن ويصبح الفاعل الرئيس الموكول إليه انتخابيا بتدبير المرحلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما يرى المتتبع للشأن المصري أن تأثيرات وتداعيات فوز التيار الإسلامي محليا يمكن أن تكون في عدة اتجاهات وعلى مستويات عدة:
أولا على مستوى التيار الإسلامي نفسه: رغم ما يظهر من انقسام التيار الإسلامي إلى تيار متشدد وآخر معتدل، وإلى تيار سلفي وأخر يمثله الإخوان وثالث صوفي، فإن فوز حركة الإخوان المسلمين تعد مكسبا إضافيا في الرصيد النضالي والسياسي لعموم التيار الإسلامي بشتى تلويناته، كما أن نجاح الخطاب المعتدل سياسيا سيقوي القناعة عند كثير من الأطراف بنهج هذا الاختيار في العمل السياسي والدعوي، والقيام بمراجعات تصحيحية لكثير من الخيارات والمبادئ الثورية للحركات الجهادية، وإن كان هذا لا يقتصر على مصر وحدها بل يمكن أن يتعداه إلى مستوى كبار الحركات الجهادية في العالم الإسلامي، مع العلم أن المراجعات التصحيحية انطلقت في مصر قبل هذه الفترة.
ثانيا على مستوى التيار العلماني بشقيه اللبرالي والاشتراكي، والقومي: فإن هذه التيارات التي طالما تواطأت مع النظام السابق لقطع الطريق على التيار الإسلامي وملاحقته، سواء في الحقبة الناصرية أو ما بعدها في عهدي السادات ومبارك تتخوف كثيرا من وصول التيار الإسلامي إلى سدة التدبير السياسي للمرحلة، بل وتقود حملة التخويف من الإسلام والإسلاميين للتمايز الموجود بين التيارين الإسلامي والعلماني في الموقف من القضايا الجوهرية في التصور والممارسة.
ثالثا فلول النظام السابق والذين اصطفوا بجميع أطيافهم ومستوياتهم في صف المرشح الرئاسي أحمد شفيق أحد أبرز وجوه النظام السابق، فهذا الجانب لا يملك إيديولوجيا واضحة سوى المصلحة السياسية والاقتصادية والبحث عن الحصانة السياسية والحماية القانونية من الملاحقة في جرائم العهد السابق، وكذلك الرغبة في استغلال نتائج الثورة والالتفاف عليها والإيهام بالتوبة والإصلاح، في الوقت الذي لا يعمل أصحاب هذا التوجه إلا على إعادة إحياء العهد السابق بأشكال وطرق جديدة. وهذا الطابور يستميت في معاكسة وصول التيار الإسلامي والتفنن في أساليب الدعاية المضادة والتخفي وراء الشعارات الجديدة.
رابعا المجلس العسكري : رغم أن الخطاب الظاهري للجيش هو الوقوف بحياد وعلى مسافة واحدة إلا أن ولاء الجيش للنظام السابق وتلاقي مصالحهما معا أمر غير خاف على أحد كما أن المؤسسة العسكرية استفادت في العهد السابق من امتيازات ومصالح كبرى أصبح بسببها الجيش قوة اقتصادية فاعلة ومؤثرة، كما أن المؤسسة العسكرية والمخابرات والأمن تمتلك أسرار الملفات الكبرى للبلاد وتتخوف من صعود التيار الإسلامي وإمكان حدوث انقلاب في التوجه الاستراتيجي للسياسة المصرية محليا وإقليميا ودوليا، ولعل هذا ما يفسر محاولات الانقلاب الناعمة التي قادها الجيش في المرحلة الانتقالية لسحب البساط أمام التيار الإسلامي بتقليص صلاحيات الرئيس، وصلاحيات المجلس التشريعي الذي تتحكم فيه الأغلبية الإسلامية حتى لا يتمكن الاسلاميون من تدبير المرحلة وتنفيد برنامجهم السياسي بنجاح…
ثانيا – التأثيرات الإقليمية : في هذا الجانب يمكن أن نلحظ عدة مسارات لتأثير الثورة في المشهد الإقليمي الذي تتنافس فيه قوى إقليمية كبرى من أجل قيادة المنطقة وهي دول مجلس التعاون الخليجي، وإيران والكيان الصهيوني وتركيا، ثم على المستوى القوى السياسية الشعبية الحركات الإسلامية في المنطقة( اليمن، الأردن، سوريا فلسطين، لبنان، شمال إفريقيا، وغربها…)
أ ـ على مستوى الحركات الإسلامية السنية في المنطقة: يعتبر نجاح الثورة المصرية ونجاح الانتقال الديمقراطي ونجاح الخيار السلمي للثورة المصرية وقوة تنظيم الحراك الشعبي المصري سندا قويا للتوجهات الإسلامية في المنطقة وتجربة تستحق الدراسة المتأنية والاستفادة من إيجابياتها وسلبياتها، ولقد كانت عيون الحركات الإسلامية في المنطقة تترقب بقوة ما سيؤول إليه التدافع السياسي في مصر، لذلك فقد هللت كثير من الحركات الإسلامية بانتصار الثورة المصرية وانتقال السلطة ديمقراطيا على مستوى التشريع والرئاسة وخرج العديد من الشباب والهيئات معبرين عن مباركتهم لفوز محمد مرسي ومنددين في نفس الوقت بأعمال المجلس العسكري في انقلابه الناعم، حدث هذا في اليمن وغزة والأردن ولبنان وسوريا وشمال إفريقيا والسودان وغيرها من البلدان التي تحتضن قوى إسلامية ذات تطلعات للمشاركة السياسية بتفاوت في الحجم. ويترقب الكثير أن يقود فوز التيار الإسلامي في مصر إلى التأثير في الملفات السياسية للمنطقة في غزة أساسا و ليبيا، وسوريا، واليمن…
ب- على المستوى التركي رغم التنافس بين الطرفين على الزعامة الإقليمية في المنطقة-، فيظهر أن تركيا ستجد في حكومة الإخوان المسلمين في مصر النصير في القضايا الإقليمية التي تتوحد فيه الرؤية بين الطرفين : نصرة الشعب الفلسطيني في غزة، والدعوة إلى الإصلاحات الديمقراطية في المنطقة، وتأييد الثورة السورية، ودعم الثورة اليمنية وغيرها من القضايا المشتركة بين البلدين.
ج- على مستوى مجلس التعاون الخليجي فإنه يقف موقفا وسطا يرحب بالانتقال الديمقراطي وحكومة الإخوان المسلمين لكن لا يرغب في انتقال عدوى الثورة إلى دوله ويرفض تصدير الإخوان للثورة ونقل التجربة المصرية، وهو الأمر الذي إذا حدث سيكون له تأثير سلبي في مواقف دول اتحاد مجلس التعاون الخليجي من مصر ومن حكومتها الجديدة التي لا يمكن أن تسكت عن مثل هذا.
د- على مستوى الكيان الصهيوني يبدو هذا الكيان أكثر انزعاجا ليس من الثورة المصرية وحدها، وإنما من جميع ثورات الربيع العربي التي أفرزت قوى سياسية ذات حمولة إسلامية ومشاريع تعتبر القضية الفلسطينية ومساندة الشعب الفلسطيني من ركائز مشروعها الإسلامي. لهذا لا يفتأ قادة الكيان عن التعبير عن تخوفهم من مصير الاتفاقيات بينهم وبين مصر وبينهم وبين الفلسطينيين والأردن وسوريا في حال نجاح الحركات الإسلامية في هذه الدول.
وعلى العموم فإن نجاح التيار الإسلامي في مصر في انتخابات المجلس التشريعي وانتخابات الرئاسة حدث بارز لن يمر في المنطقة دون أن تكون انعكاسات وآثار إيجابية أو سلبية، ومواقف مؤيدة حقا ومواقف مؤيدة بشروط، ويتوقف حجم التأثير في ملفات المنطقة على قوة الفاعلين في الجهة الإسلامية والحنكة السياسية في إدارة الصراع وآليات التعاون وتجنب الصدام ما أمكن. وإن مصر تحت قيادة الإخوان المسلمين مؤهلة للعب أدوار إيجابية في المنطقة لوجود امتداد طبيعي لهم في الحركات الإسلامية التي تنتشر بحجم كبير وفعال في دول الجوار الإقليمي لمصر وبالتالي يحسن تدبير المرحلة خارجيا بشكل يضمن التعاون والاستقرار والحقوق المتبادلة لجميع الأطراف والفاعلين، وإذا نجحت حركة الإخوان المسلمين في تحقيق تقدم إيجابي وسلس في ملفات المنطقة، فإن مصر ستستعيد قوتها الإقليمية ودورها في المنطقة؛ ذلك الدور الذي ظل معطلا أو منحرفا عن بوصلته العربية والإسلامية طيلة أزمنة عهود الاستبداد البائدة.
د. الطيب الوزاني