قصة عجيبة ورائعة بكل المقاييس، أقل ما يقال عنها أنها أذهلتني وجعلتني أرصد كل تفاصيلها بنهم لأسوق إليك قارئي في هذا المقال موضوعا استثنائيا، لا أشك بأن علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء السياسة من الغربيين سيضطرون إلى إسالة كل مداد أقلامهم للإحاطة بحجمه الزلزالي الذي أصاب المجتمع الغربي في مقتل، وضرب كما يقال في صفر كل التبجح والعجرفة الغربية التي ألهبت ثرثرة الكثير من المفكرين الغربيين وجعلتهم يخدمون فلسفة الإمبريالية الغربية، ويسوقون لها بكل ممنونية، مقولة حتمية سيادة نظامها الليبرالي ” كنموذج أخير لأعظم منظومة تفتق عنها الخيال البشري.. وبانتشارها وتبنيها طوعا أو كرها ينتهي التاريخ كما بشر بذلك المفكر الياباني فوكوياما في كتابه : (نهاية التاريخ) وتسود السعادة كل المجتمعات التي تبايع النظام الغربي الفاضل. هذه القصة بالضبط تحمل كل جينات تقويض هذا المشروع الهيمني إذ تضع كل من علم بمجرياتها أمام السؤال الكبير : هل نحن أمام نظام ليبرالي نموذجي للاقتداء والاستيراد؟؟؟ دون إبطاء أضعك قارئي في الصورة، ويتعلق الأمر بمغنية الراب الفرنسية الشهيرة ديامز. وقد أحدث خبر اعتناقها للإسلام رجة عملاقة في الأنفس ابتدأت سنة 2009 وهو تاريخ هذا الاختيار، مع ما رافقه من احتجاج عارم ضد المطربة الشابة التي اختارت إزاءه عدم الرد، وخلا أغنيات قليلة سجلت فيها كل معاناتها لم تعد ديامز للظهور الإعلامي إلا سنة 2012 تاريخ إصدارها لكتابها الذي يحمل سيرتها الذاتية وردها حول الحملة الإعلامية الشرسة التي تعرضت لها. وما سردناه في بداية المقال لم يكن تضخيما بأي شكل من الأشكال فهذه الشابة الحسناء الطفولية الوجه والملامح، الدافقة حيوية كانت لسنوات عديدة تغني لجيل التيه والضياع، داخل منظومة غربية فردية أنانية أعطت شعوبها رغدا ماديا وحرمتهم سكينة الروح وانشدادها إلى الخالق الذي يهب الجسد توازنه، فكان لا بد أن تهد هذه الشعوب الوحشة والتمزق والفراغ الروحي هدا، وترمي بها إلى مستنقع الجريمة والمخدرات والشذوذ والانتحار في نهاية المطاف.. وفي هذا السياق لمع نجم هذه الجميلة المتمردة، وقد حملت جل أغانيها بذرة الاحتجاج والغضب ضد هذا الضياع الذي يقوض سعادة الإنسان الغربي بمصادرة فطرته، فغدت ديامز الناطقة الرسمية باسم جيل الغضب والسأم من الكبار الفاسدين.. وحققت أغانيها أكبر حجم للمبيعات وفجأة اختفت ثم ظهرت وهي تخرج من مسجد للجالية المسلمة بفرنسا بلباس الحجاب الكامل فطار عقل فرنسا. وكيف لا يطير عقلها وينتابها السعار، فديامز التي كانت تنقل معاناة الشباب إلى الشباب عبر أغاني كلماتها وتقول لهم من خلالها أنها مازالت تبحث عن المخرج كما هم جميعا من نفق التيه، تظهر فجأة ولتقول لهم عبر الصورة التي التقطت لها وحتى من دون كلمات أنها وجدت المخرج من النفق : إنه الإسلام. وبالتالي فالأمر أشبه بإعصار ساندي ذلك الذي أصاب الشعب الفرنسي إزاء خبر اعتناق مطربة الراب ديامز للإسلام. ولدى نشرها مؤخرا لكتاب تصف فيه بواعث اختيارها للديانة الإسلامية كما أسلفنا، عاد الجدل ليؤثث المشهد الفرنسي وليتضح بالعودة إلى تاريخ هذا الاعتناق الاستثنائي للإسلام، حجم الرعب الذي يختمر بالوجدان الغربي أو على الأقل لدى شريحة معتبرة من الغربيين الذين يرون في انتشار الإسلام بديار الغرب تهديدا لوجودهم ولحضارتهم، الشيء الذي يذكرنا بالأطروحة الحصيفة للمفكر الفرنسي (الماركسي سابقا) المعتنق للإسلام المرحوم جارودي الذي تحدث عن عقدة الاستعلاء والتمركز المغرور حول الذات لدى الإنسان الغربي .. وهي العقدة التي ظهرت وبشكل صادم في تعليقاتهم على صفحات المواقع الاجتماعية، إذ اعتبروا أن اعتناق مطربة الراب الفرنسية للإسلام كان أهون الضررين بالنظر إلى أزماتها النفسية التي قادتها إلى مستشفى الأمراض العقلية وإلى محاولة الانتحار، وذلك في محاولة لتسفيه اختيارها واعتباره نابعا من لوثة جنون وتخبط نفساني مرضي للمشاعر ، وتمزق أفضى إلى القبض على أول قشة تصادفها ديامز في طريقها ألا وهي قشة الإسلام!! والمثير للسخرية والإشفاق في نفس الآن هو حجم الانكشاف الذي أضحى يحاصر وسائل الإعلام الغربية وهي تحاول بكل ما أوتيت من قدرة على التدليس والتزييف للحقائق تسجيل خطوات إلى الوراء بعد أن سجلت خطوة اعتبرها الإعلاميون العنصريون جد متهورة، وغير احترافية، حين استدعت مغنية الراب ديامز بلباسها المحتشم وفتحت لها المجال لكي تسوق أدلة دامغة على عبث الحياة الفنية وقسوتها وضرورة العودة إلى الدين، وتعني به الإسلام كحل ناجع لتلافي السقوط في مستنقع اليأس والاكتئاب والمخدرات، وقد بدت ديامز على شاشة المحطة الفرنسية سعيدة ومتوازنة ومشحونة بطاقة الود والمحبة للحاضرين بالأستوديو وللمشاهدين للقناة عموما. ولتكفر القناة الفرنسية على ما اعتبره روادها من المثقفين المتطرفين والإقصائيين خطيئة إعلامية، ونزقا غير محتمل، استدعت في حلقة جديدة مجموعة من الإعلاميين المنحازين، فطفقوا تجريحا ونقدا.. معتبرين أن تهور القناة التلفزية يكمن في تسويقها خطأ لنموذج المرأة المسلمة المثالية ممثلة في معبودة الشباب الفرنسي ديامز.. والمؤلم في الأمر أن تدخل على الخط شخصيات عمومية ذات جذور إسلامية كإحدى قائدات سفينة جمعية “لا عاهرات ولا خاضعات” الفرنسية وهي مسلمة مغاربية، لتتهم ديامس بإشاعة الظلامية وتكريس نموذج المرأة المحتجبة الخاضعة، وباعتبار ديامز معشوقة فتيات المهجر المسلمات فإن ارتداءها للحجاب سيؤدي إلى موجة تَحَجُّب كبيرة، الشيء الذي يتنافى مع خطاب المساواة الذي اعتبرت ديامز لفترة طويلة، من خلال فحوى أغانيها رائدته والمدافعة المستميتة عنه، وأكثر من ذلك، اعتبرتها وزيرة فرنسية من أصول إسلامية بمثابة خطر عمومي داهم.. وبالوقوف عند أغانيها ستحيط حقا قارئي بحجم القلق الذي يمكن أن يصيب دعاة الحذر من الإسلام، فالشابة ديامز ظلت لسنوات عديدة تؤجج مشاعر رفض مجتمع استهلاكي مبني على القسوة والأنانية، وبدت في جل أغانيها تعيسة حزينة، وآلاف الشباب يصرخون وينتفضون مرددين في حفلاتها، قناعتهم بكل ما تقول، وفجأة تعود لتقول لهم إن الحل يكمن في العودة إلى الله.. هل تدركون تبعات هذه الخطوة الجريئة العظيمة على مسار وامتداد الدعوة؟؟؟ ثم ونحن -أمام سيل هادر من شبابنا المسلم المنساق إلى موجات التغريب الفني وعاجزين- ندمن الفرجة فيهم وهم يغوصون في نفس وحل الغربيين، ويجترون نفس تبعات انحرافاتهم، ألا يبدو مستعجلا في أجندة خطابات بعض من دعاتنا المكررة الرتيبة، أن ينوعوا ثقافتهم وأن يطالعوا تفاصيل الحراك الغربي في كل تجلياته ليعرفوا نوعية الدواء الأنسب لأبنائنا وبناتنا؟ مجرد سؤال.. وسنخوض في حلقة قادمة بإذن الله في حديث شائق عن واقع التمزق والتيه الذي قاد ديامز إلى الضفاف اليانعة للإسلام. وهنيئا لديامز وصولها بصبرها إلى شاطئ الأمن والأمان، ونختم بكلمات ذات معاني عميقة في السياق للكاتب والمفكر المجاهد فتح الله كولن حفظه الله حول ثمار الصبر: (التوجه على الدوام نحو كل ما يعلي المرء والحذر من كل ما يسفل بالمرء ومقاومته. وأخيرا تحمل كل البلايا والمصائب التي تنزل في وقت غير متوقع وبشكل غير متوقع وتهزك دون أي يأس أو إحباط، هذا هو الصبر الذي هو أمر من العلقم ولكنه في نهاية المطاف شراب زلال).
ذة. فوزية حجبي