تـوطـئـة :
شاع في الكتابات التربوية المعاصرة الدعوة إلى التربية على القيم، والدعوة إلى الاهتمام بهذا المكون لما أصبح يعانيه العالم أفرادا ومجتمعات من انهيار أخلاقي وسلوكي تجلت أعراضه في الأزمات النفسية وسوء التوافق الاجتماعي، وأنواع من السلوكات العدوانية والصراعات الاجتماعية والحروب وأشكال عديدة من العنف المادي والرمزي المعنوي أفقيا وعموديا. غير أن الناظر في هذه الدعوات لا يعدو أن يجدها بعيدة كل البعد عن القيم الحقيقية التي شرعها الله لعباده بل تجد كثيرا منها ينطوي على قيم وسلوكات تناقض قيم الدين الإسلامي الحنيف؟ فأي دلالات يحمل لفظ القيم ؟ وهل القيم على وزان واحد ؟ وما هي خصائص القيم؟
أولا فـي دلالـة لـفـظ الـقـيـم: يمكن إرجاع لفظ القيم إلى الجذر اللغوي الثلاثي قام ، وقوم ، وقيم، ومدارها جميعا على القيام بالشيء والقيام عليه، والاستقامة والاعتدال والاستواء وعدم الاعوجاج والصحة، وقد وصف الباري جل وعلا دينه بأنه قيم أي مستو ومعتدل ومستقيم لا اعوجاج فيه فقال سبحانه: {قًلْ إِنَنِي هَدَانِي رَبِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دينًا قَيِّمًا مِلَّةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفَا}(الأنعام -121)، وقال جل شأنه : {ذلك الدين القيم}(التوبة -36).
وفي الاصطلاح يصح القول بأن القيم هي مجموعة المعايير االشرعية التي تتغيى تحقيق استقامة السلوك الإنساني وصلاحه. وتتعدد القيم وتتنوع بحسب جهات الاعتبار فمن حيث مصدرها : هناك القيم الشرعية والقيم العرفية، ومن حيث مجالها فهناك قيم عقلية ( مجالها العقليات)، وخلقية (مجالها السلوكات والأفعال) وفنية (مجالها الأعمال الفنية والذوق الجمالي). وهناك تقسيمات أخرى.
ثانيا فـي خصـائص القيم بـيـن التصـور الوضعي والتصـور الإسـلامـي : قام التصور الوضعي لمسألة الأخلاق والقيم على اعتبارها:
> ذات مصدر بشري: فردي أو اجتماعي : بمعنى أن مصدر القيم هو إنتاج بشري إنساني واجتماعي مشروط بزمانه وحاجياته المادية، وأشكال الصراع والتعايش وأنماط العيش المادي.
> ذات طابع نسبي بمعني أن القيم معايير نسبية وليست مطلقة، خاصة وليست عامة، إذ لكل عصر ومجتمع وجيل وفئة ( اجتماعية وعرقية ومهنية وعمرية..) قيم خاصة.
> وتتصف بالتغير وعدم الثبات فلا شيء مطلق ولا شيء ثابت ورغم دعوة الاتجاهات الوضعية والعلمانية والحداثية إلى القيم على هذه الاعتبارات فإنها تتناقض مع ذاتها حينما تعتبر قيم العلمانية والحداثة قيما كونية ثابته ومسلمة لا تقبل النقاش ويتوقف عندها التاريخ ( المرحلة الوضعية عند الوضعيين، المرحلة الشيوعية عند ماركس، نهاية التاريخ عند فوكوياما، قيم الحداثة وما بعد الحداثة ) أما التصور الإسلامي فيقيم القيم على أسس وخصائص مخالفة لما سبق منها:
> خاصية الربانية: فمصدر الأخلاق والقيم هو الوحي (مأمورات ومنهيات، ومندوبات ومكروهات ومباحات) وليست اجتماعية أو بشرية، وإن وجدت مثل هذه القيم فتعاير بمعيار الدين فما صح منها صار مشروعا وإلا فلا. لذلك أخطأ من قصر القيم على البعد الإنساني ، إن القيم في الإسلام ليست إلا الوحي وأحكامه العقدية والعملية، والقيم عقيدة قبل أن تكون سلوكا ، وهي تصور قبل أن تكون تصرفا. ولذلك ربط كثير من المفكرين بين القيم والدين .
> خاصية الثبات: فالقيم التي أمر بها الشرع أو نهى عنها لا تقبل التغيير والتبديل والنسبية بحسب تقلب الأعصار وتغير الأمصار، وانقلاب الأحوال وتبدل الأجيال. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}( الروم : 30)، وخاصة ما تعلق منها بمكارم الأخلاق وأصولها.
> خاصية الشمول والنسقية فالقيم نسيج متكامل ومتضافر وشامل لكل ما يتعلق بالإنسان والمجتمع: تصورا وتصرفا، تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، في ذاته ومع غيره.
> خاصية الحاكمية : فالقيم الإسلامية حاكمة على الفرد والمجتمع، ولا يحاشى في الدخول تحت حكمها أحد إلا من استثناه الشرع برخصة لضرورة تقدر بقدرها، وليس تحلل الفرد من قيمة معينة إلا تمردا على الحق وخروجا عن الاستقامة إلى الاعوجاج وعن الصحة إلى السقامة. وبناء عليه نتساءل أي قيم نريد التربية عليها؟ أهي القيم التي شرعها الله تعالى وارتضاها للإنسان أم القيم التي شرعها الإنسان للإنسانالمشروطة بظروفها والمحكومة بمنطق القوة والصراع والهيمنة والمنفعة المادية؟
ثالثا صراع القيـم فـي الأمـة الإسـلاميـة الـمـعـاصـرة: مع دخول الاستعمار إلى العالم الإسلامي تسربت الأفكار والإيديولوجيات الغربية بشتى مذاهبها ومرجعياتها، وكانت مقاومة الأمة الإسلامية لهذا المستعمر على أساس قيم إسلامية ومرجعيات إيمانية مصدرها الوحي واجنهادات علماء الأمة عبر التاريخ، وما إن خرج المستعمر حتى مكن لفكره وثقافته وقيمه ، وعلت أصوات من داخل الأمة تدعو إلى قيم جديدة ذات مرجعية غربية مادية ، فبرز بقوة الصراع القيمي في العالم الإسلامي بين التصور الغربي الحداثي وما بعد الحداثي والتصور الإسلامي. وقد أفرزت مرحلة الاستقلالات صعود نجم التيارات المتغربة في كثير من أقطار العالم الإسلامي فمكنت بالقوة للقيم الغربية وسخرت لذلك مؤسسات الأمة الإعلامية والتعليمية والسياسية ( أحزاب ، جمعيات، هيئات..) والفنية.
وكان نتيجة ذلك إضعاف القيم الإسلامية وتجاوزها، وإبعاد الأمة عن دينها وقيمها ، ولقد ترك ذلك آثارا خطيرة تجلت بعض مظاهره في:
> علمنة مؤسسات المجتمع ، وإضعاف كل مؤسسة تخدم الدين وقيمه، والترويج جهارا لقيم التحلل من الدين والحرية غير المشروطة، ورفض معايرة الأمور ورؤية العالم والأشياء والأحداث من زاوية الدين ومعاييره.
> تخريج أجيال حاملة لثقافة غربية أكثر مما هي حاملة للثقافة الإسلامية وقيمها، > التردي القيمي وانتشار سلوكات التمرد وأخلاقيات الفساد والجشع والمنفعة المتطرفة.
> التطبيع مع قيم الفساد والرذيلة، وإدخالها ضمن حقوق الإنسان في الاختيار والتصرف. لذلك فالحديث عن القيم في الأمة الإسلامية ينبغي أن يتوجه وفق قيم الأمة ، والتربية على القيم ينبغي أن تصرف الجهود والطاقات في تخريج أجيال مشيعة بقيم الإسلام الذي هو دين هذه الأمة أولا ودين الإنسانية في انتظار وجود من يقوم بمهمة بلاغ هذا الدين للعالم والاحتكام إليه.
ولذلك فلن يخلص الأمة مما تعانيه من التبعية الفكرية والإباحية الأخلاقية والذيلية الحضارية إلا أن تعود إلى نظامها التربوي والقيمي الصادر من الوحي وعلومه والحمد لله الذي أخبر عن كتابه فقال : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
د. الطيب الوزاني