خروق في سفينة المجتمع 73 – الفراغ الروحي


الفراغ الروحي هو ذلك الوضع الذي تكون فيه النفوس إما خالية من الزاد الإيماني الصحيح الموصول بمصدره السليم من أي اختلاق أو تحريف، ومن كل ما يرتبط بذلك الزاد من مفاهيم وتصورات، ومن معايير وقيم، يستند إليها لتمييز الحسن من القبيح والخبيث من الطيب، والحق من الباطل، وإما محتوية على ذلك الزاد في صورة باهتة غير مفعلة، بما يجعله في حكم المعدوم، بناء على أن الزاد الإيماني يكتسب مصداقيته من فاعليته وذلك بترجمته إلى سلوك في الواقع، وإلى ممارسة واضحة المعالم والأهداف، تحدث تغييرا إيجابيا في ذلك الواقع، بحيث يرتقي بأحوال الناس على جميع الأصعدة، بما يعود على المجتمع بالتلاحم وتماسك البنيان، وبالسعادة والاطمئنان.
وإذا كانت الحالة الأولى منطبقة على الغرب الذي انتهى به مساره الحضاري بفعل الفصام النكد إلى فوضى التصور والاعتقاد التي قادته إلى فوضى الممارسة والسلوك، فإن الحالة الثانية تنطبق على المجتمعات التي يحضر فيها الدين كأشكال ورسوم، فضلا عن حضوره كمشاعر باهتة باردة في النفوس، تظل عاجزة عن الوفاء بالوظائف المنوطة بالإيمان في حال صفائه وتألقه.
ومما لا شك فيه، أن مجتمعنا المغربي ينتمي إلى هذا النوع الثاني، الذي يتجلى فيه الفراغ الروحي عبر مستويات عدة، يحتاج إدراكها إلى تجاوز القوالب والأشكال، إلى ما تخفيه من ضحالة على مستوى تمثل المقاصد الحقة للدين، التي يظل التدين بدونها تدينا مغشوشا فاقدا لأغلب مقوماته وعناصره التي سمي لأجلها دينا. وقد ينظر البعض إلى أن هذا الحكم لا يخلو من إجحاف في حق هذا المجتمع ونظرائه الموجودين معه ضمن نفس دائرة الانتماء، نظرا لوجود كثير من المظاهر المرتبطة بالإيمان، تند عن الجحود والنكران.
غير أن مقارنة تلك المظاهر الإيجابية بما يضادها -وهو كثير- من جهة، والنظر إليها في ضوء الصورة المشرقة والنموذج الرفيع الذي يعد الدين بإخراجه للناس من جهة أخرى، والذي ازدهت بوجوده عصور ذهبية سالفة، كفيلان (أي النظر والمقارنة) بإقناع الناظر الموضوعي الحصيف.
أليس من تجليات الفراغ الروحي هذا الاستشراء الشنيع لجرائم القتل والاغتصاب، والاعتداء على الأعراض والأموال، وترويع الآمنين في كل وقت وحين؟
أليس من تجليات الفراغ الروحي ذلك العبث والتلاعب بمصالح الناس، من خلال أساليب الغش والتدليس والنصب والاحتيال، التي تتكاثر وتتناسل، وتتخذ -على مر الزمن- أشكالا أشد وأنكى؟
أليس من تجليات الفراغ الروحي حقا أن تتسع رقع للشر والانحراف داخل سفينة المجتمع، وتظل إفرازاتها المسمومة تنتشر في طول السفينة وعرضها دون رقيب ولا حسيب، وذلك من قبيل الارتشاء والفساد والاتجار في المحرمات؟
أليس من تجليات الفراغ الروحي ما يحدث من تطبيع مع مظاهر السوء التي توجد في الواقع والإعلام على حد سواء؟
بل أليس من تجليات الفراغ الروحي في مستواه الأشد سوءا ما أصبح يقذف به الدين وأهله من أشد التهم وأقذع النعوت؟
إن الروح لتشهد في سفينة المجتمع ضمورا وتيبسا بسبب حرمانها من مصادر التألق والانتعاش والازدهار، وتعرضها لنزيف خطير يعرضها للتلاشي والذبول، وإن الاستمرار على هذا الوضع لينذر بجنوح السفينة نحو قدرها المحتوم، الذي لا يعصم منه غير عملية جادة لسد الثغرات وترميم الأعطاب، يتطوع للمشاركة فيها كل من له شعور صادق للانتساب إلى هذا الوطن، وانتسابه إلى الدين الذي اختلطت عناصره بأمشاجه وذراته، وحرص على أن يتبوأ مكانته اللائقة، ويبعد من حوزتها كل من ثبت تورطه في حركات مدمرة تستهدف أمن الوطن وسلامته.
يقول الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة: 33).

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>