أذكر أنه في أواسط الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كان الحديث في الجامعة يدور حول استقدام إصلاح يقوم على نظام “وحدات القيمة”(U.V)، وأذكر أنه زارنا في ذلك الوقت أستاذ جامعي فرنسي عضو في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، ومهتم بقضايا التعليم في بلاده، فوجدنا خائضين في مجال النقاش عن قضايا هذه الوحدات، فما كان منه إلا أن قال بكل جدية: “نحن قذفنا بهذا النظام في سلة المهملات وأنتم تريدون أخذه”.
ومن الألطاف الربانية أن هذا النظام لم يطبق في ذلك الوقت. ودار الزمان دورته، وبعد حوالي عقد من الزمان، أي في أوائل التسعينات من القرن الميلادي الماضي، انعقد مؤتمر دولي في سوريا (فرج الله كربها) عن قضايا إصلاح التعليم الجامعي، وحرص العديد من الأساتذة الجامعيين المهتمين بقضايا الإصلاح من ذوي الخبرة، والمجرِّبين للتدريس بنظام السنوات ونظام الفصول، حرصوا على إدراج توصية تطالب بالعودة إلى نظام السنوات عوض العمل بنظام الفصول، وذلك بعد مناقشات مطولة خلال جلسات المؤتمر بينوا فيها مثالب نظام الفصول وخاصة ما يتعلق بالتحصيل، حيث أكدوا أن الطالب في نظام الفصول لا يكاد يحصل على أي شيء ذي قيمة، سواء فيما يتعلق بالمعلومات أو بالمنهج، فضلا عن أن الأغلبية المطلقة من الطلبة لا تعود إلى المكتبة، نظرا لهيمنة نظام الدروس والمطبوعات المختصرة، عوض نظام المحاضرات واستقاء المعلومات من المصادر والمراجع. وكان بالإمكان الاستفادة من توصيات هذا المؤتمر، وخاصة من قِبَل أولئك الذين لم يجربوا بعد نظام الفصول، – وكنا نحن المغاربة أحد هؤلاء – للبحث عن صيغة تجمع بين مزايا نظام الفصول ونظام السنوات. لكن دعوى مسايرة النظام الدولي في التدريس بما يعرف(L.M.D) أعمت البصر والبصائر، حتى صرنا الآن وبعد عشر سنوات من تطبيق نظام الفصول لا نقوَى على شيء، حيث أصبح الكل يتحدث عن فشل التعليم ببلادنا وضرورة إعادة إصلاحه وبنائه، رغم العمليات الجراحية الكبرى، التي وصفت بأنها استعجالية والتي رصدت لها أموال ضخمة راحت هباءً منثورا. الأمثلة كثيرة على ما رفضه الآخرون أو تبين لهم فشله بعد تجريبه، وطبقناه نحن بحذافيره في مجال التعليم بدعوى الاصلاح، أو تجريب مناهج وطرق معينة في التدريس، وكلها باءت بالفشل، وكأننا أولئك القوم الذين لا يعقلون. لكن الذي لم يطبقه أي أحد في العالم الحديث، ولم يُناد به إلا بعض المعتوهين القلائل جدا من أصحاب الأهواء والمصالح في الشرق العربي منذ عقود، وتراجعوا عن ذلك بعد أن تبين لهم أنفسهم حجم الخراب الذي يدعون إليه، فضلا عن رفض العقلاء لما نادوا به جملة وتفصيلا. ذلكم هو الدعوة إلى استعمال العامية أو الدارجة عوض الفصحى في التعليم، سواء أكان أوليا أم ثانويا. وبغض النظر عن كل ما قيل وما يمكن أن يقال في الموضوع، وعن الإفلاس والدمار الذي يتهدد البلاد والعباد في حال اعتماد ذلك ولو جزئيا، فإن السؤال المطروح هو: لماذا نحن متأخرون دائما عن الركب؟ ليس فقط في اللحاق به في حالة السبق، ولكن حتى في النكوص والتقهقر والرجوع إلى الخلف، والنبش في كل ما هو عَفِنٌ أقبره الماضي لعفونته، مع رفع شعارات براقة، كتقدم التعليم وتقريب المعلومة من التلميذ ونحو ذلك.
لا نريد أن نضرب أمثلة بدول فعلت شيئا شبيها بهذا فيما يتعلق بلغاتها، فضَلَّت وأضلَّت، ولكن يمكن القول إن التفكير – ولا أقول الفعل – في مثل هذا الموضوع، وفي هذا الزمن بالذات، قد يكون صائبا – ولو مع كثير من التمحُّل- في لغة تتحدث بها طائفة أو قبيلة أو حتى شعب معزول عن التاريخ والواقع، ومجرد من أي رصيد تاريخي أو حضاري، لكن أن يقال ذلك في العربية بكل ما تحمله من تراث حضاري ضخم له هذا الامتداد العظيم في التاريخ والواقع، مما لا تملكه أي أمة أخري، فذلك والله التخلف بعينه. فمتى يكون لنا شيء من التقدم، وخاصة في مجال التعليم، ولو على مستوى التفكير والكلام؟
د. عبد الرحيم الرحموني