إن هذه الهزات التي تعاني منها أمة الإسلام اليوم بشكل لم يسبق له مثيل، والمتمثلة أساسا في كثرة القتل والفتن، ليست هزات عادية بقدر ما هي رسائل إلهية فقهها من فقهها وغابت عمن غابت عنه، ومن أعظم هذه الرسائل ما يلي:
الرسالة الأولى: في أن الطائفية والتعصب لغير الحق إهلاك للبلاد والعباد: والأمر ظاهر بجلاء تام في كل البلاد العربية والإسلامية، وخاصة في الشرق الأوسط، ولا تتم معالجة هذا الورم السرطاني الذي ينخر في كيان الأمة إلا بالاعتصام بكتاب الله تعالى، والرجوع إلى المبدأ القرآني المتمثل في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات : 13)، والمتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم : “أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ”(1). بمعنى علينا العودة إلى “الوحدة الترابية” المتمثلة في آدميتنا كبشر، والوحدة الروحية؛ المتمثلة في الوحدة المرجعية الإسلامية كمسلمين. إن السيف الذي سلطه يهود الجزيرة العربية على رقاب عرب يثرب قبل مجيء الإسلام ففرقوا بينهم وبثوا بينهم العداوة والبغضاء، هو نفسه اليوم يسلط على رقاب الأمة لتتفرق وتتشرذم، فيتسنى تقسيمها من جديد على الشكل الذي يرضي خصوم الأمة، ونماذج هذا التقسيم على مر التاريخ بارزة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، مثل قضية إحياء اللهجات واللغات المحلية والعرقية، وقضايا النزاع على الحدود، وقضايا القوميات الصغيرة التي عاشت في ظل الإسلام بحقوقها اللغوية والثقافية في انسجام تام مع الإسلام بل لم يزد الإسلام أهلها إلا رفعة، وتأجيج قضايا الخلاف المذهبي بين المسلمين، وغير ذلك من الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية. كل ذلك يزداد في اتجاه النعرات القبلية والتعصب الطائفي ومما لا ينبغي إغفاله، أن هذه العصبية، والطائفية هي من أكبر العوامل التي يمكن أن تفت في عضد الأمة أي أمة كانت، وما لم تُتُجاوز وتقوى فإنه لن يصلح حال الأمة أبدا، وستظل في تشرذمها وتفتتها حتى تتيسر لأكلة القصعة قصعتهم، وإن أول ما يجب البدء به في الإصلاح، هو معالجة هذه العصبية وإخماد نار الخلاف بين الأمة، تماما كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرا من العصبية وكل دعوى طائفية: “ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية”.
الرسالة الثانية: تحرير الإنسان من عبودية الأهواء، إلى عبودية رب الأرض والسماء؛ سبيل معالجة الأمة من الأدواء: لقد وجه الغرب ترسانة إعلامية قوية جدا إلى العالم العربي والإسلامية، ترسانة موجهة أساسا إلى تدمير القيم والأخلاق التي لا تقوم أمة إلا عليها، فأشاعت الفاحشة وما يؤدي إليها من قول أو عمل، ونشرت العنف بين المسلمين، فانتشر الخوف والهلع، ولم تعد حياة الإنسان في أمان؛ سواء ما تعلق منها بالدين، أو بالنفس، أو بالعقل، أو بالعرض، أو بالمال، الكل في خطر تام، فدخل الإنسان بذلك في صراع مرير مع أخيه الإنسان، في الوقت الذي كان من الممكن أن يستغني عن هذا كله لو أنه تمسك بقيمه وأخلاقه الإسلامية. ولقد تمكنت الأهواء من الأمة، ليتسنى بذلك للغرب توجيهها إلى حيث شاء بتوجيه أهوائها عبر الإعلام وغيره، ليبدو الأمر وكأن الأمة تتحكم في مصيرها وهو مُتَحَكَّم فيه من قبل غيرها. وليست تتم عملية التحرير بالتبرير، وإنما بالنهوض والعزم على التحرير؛ تحرير الإنسان من عبودية الأهواء إلى عبودية الله تعالى القدير، وسبيل ذلك هو سبيل واحد لا سبيل غيره؛ وهو سبيل القرآن الكريم؛ الذي أصلح الله به أهل الجاهلية بعدما استحكم فيهم الهوى فيهم وتمكن، وما أشد شبه اليوم بالأمس.
الرسالة الثالثة: إذا رأيت الظلمة قاتمة، فاعلم أن النصرة قادمة: إن ما تمر به الأمة اليوم من الشدائد والمحن لم تمر به ولا بمثله عبر الزمن، وفي ذلك من الحكم والإشارات والرسائل ما تقرره الآيات التالية: قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران : 140- 142). إن قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، ووقوعها بين قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، لهو دليل على أن النصر قريب، وفجر الإسلام قد قرب بزوغه، ولك البيان بحول الله: إن ما تعيشه الأمة اليوم من القرح والمحن والظلم والعدوان، المتوجه إليه من الداخل والخارج، هو سنة إلهية في إقامة صرح هذه الأمة العظيمة التي ما قامت أبدا إلا على أساس أنها لله وبالله، باعتبارها أمة شاهدة على الناس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}(البقرة : 143). فهذه المحن، اقتضاها التمحيص والاصطفاء؛ تمحيص واصطفاء أهل الهمة، ممن سيكشف الله بهم عن الأمة الغمة، لتعود إلى ريادتها وقيادتها، ليتم قدر الله المتمثل في شاهديتها على الناس، وتلك هي النتيجة المتمثلة في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، ولم يقل الله سبحانه: بين المسلمين، ليقتصر تداول الأيام عليهم، ولكن قال بين الناس؛ هذا اللفظ العام المستغرق لجميع جنس الناس؛ المسلم، واليهودي، والنصراني، والمجوسي والهندوسي…، ولعل دورة التاريخ دارت لتعيد للمسلمين مداولتهم، ولكن لن تتم هذه المداولة إلا مقادير الله وسننه في خلقه، فلنقم بما ينبغي القيام به، ولنصبر ولنحتسب، فإن غدا لناظره لقريب فلننتظر إذن تحقق سنن الله ووعده بيقين واثق ونعمل بجد وحزم الواث في نصرة ومعية الله الخالق الرزاق.
محمد أمين الخنشوفي
————
1 – رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب، حديث رقم: 5116.
< المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- سنن أبي داود، لأبي داود السجتاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر: دار الفكر سوريا، ط: الأولى.