تـقـديـم:
معلوم أن أفعال الله تعالى دائرة بين الفضل والعدل، فما من تقدير في هذه الحياة، بل ولا شيء في الدنيا والآخرة، إلا داخلٌ ضمن فضل الله وعدله، فرحمته سبحانه بالمؤمنين فضل، وتعذيبه للعاصين عدل، وهو جلّ وعلا مع ذلك أخبر أن رحمته سبقت غضبه، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأَمَرَنا أن نسأله من فضله وعطائه الجزيل. والحديث الذي بين أيدينا خير شاهد على فضل الله تعالى على عباده المؤمنين، إذ لما حثّهم على التسابق في ميادين الطاعة والعبادة، لم يجعل جزاء الحسنة بمثلها، ولكنه ضاعف أجرها وثوابها، بينما قللّ السيئة وأكد على ذلك.
نص الحديث:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْويهِ عن رَبِّهِ تَباركَ وتعالى قال: ((إنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كَتَبَها اللهُ عِنْدَهُ حَسَنةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بها فَعَمِلها كَتَبَها اللهُ عنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعافٍ كَثيرَةٍ، وإن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كَتَبها اللهُ عنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإن هَمَّ بها فَعَمِلها كَتَبَها اللهُ سيَئّةً واحِدَة)). رواهُ البخاري ومُسلمٌ في صحيحيهما بهذه الحروف(1). وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث وهي: “أو محاها الله، ولا يَهلِكُ على الله إلاَّ هالكٌ” وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:”يقولُ الله للملائكة: إذا أراد عبدي أنْ يعملَ سيِّئة، فلا تكتُبوها عليه حتَّى يعملها، فإنْ عملَها، فاكتبوها بمثلِها، وإنْ تركها مِنْ أجلي، فاكتبوها له حسنةً، وإذا أراد أنْ يعملَ حسنةً، فلم يعمَلْها، فاكتبوها له حسنةً، فإن عملَها، فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ” وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم:”قال الله تعالى: إذا تحدَّثَ عبدي بأنْ يعملَ حسنةً، فأنا أكتُبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملَها فأنا أكتُبها بعشرِ أمثالها، وإذا تحدَّث بأنْ يعملَ سيِّئة فأنا أغفِرُها له ما لم يعملْهَا، فإذا عملها فأنا أكتُبها له بمثلها”(2).
الـمعنى العام للحديث
أولا- وقفة مع بعض ألفاظ الحديث:
1- كتابة الحسنات والسيئات: ذكر بعض العلماء أن المراد بالحسنة والسيئة عند عامة المفسرين، النعم والمصائب، و”ليس المراد مجرد ما يفعله الإنسان باختياره، باعتباره من الحسنات أو السيئات”(3). وكتابة الله عز وجل للحسنات والسيئات وقوعا وثوابا، يحتمل أن يكون المراد “قدر ذلك في علمه على وفق الواقع منها.. وعرّف الكتبة من الملائكة ذلك التقدير”(4). والله أعلم.
2- الهم بالحسنة و الهم بالسيئة: الهم ضرب من الإرادة والقصد والعزم، وهو “ترجيح قصد الفعل، تقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطورة الشيء بالقلب”(5). وقد ورد تفسير الهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: ((إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة))(6).
والجدير بالذكر أن العندية والكمال المشار إليهما في الحديث ((.. كَتَبها اللهُ عنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً)) فيه إشارة إلى عظيم لطف الله تعالى. قال الإمام النووي (رحمه الله): “أشار بقوله “عنده” إلى مزيد الاعتناء به، وبقوله “كاملة” إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، وعكس ذلك في السيئة بلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله “واحدة” إشارة إلى تخفيفها مبالغة في الفضل والإحسان”(7). فلله الحمد والمنة، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه.
ثانيا- أنواع الأعمال من خلال الحديث:
تضمن الحديث نوعين من العمل، ونوعين من الهم للعمل، وفيما يلي الأنواع الأربعة:
1- عمل الحسنات: يقول تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(الأنعام: 160)، والمجيء بها هو العمل(8). فكل حسنة عملها العبد المؤمن له بها عشر حسنات، وذلك لأنه لم يقف بها عند الهم والعزم، بل أخرجها إلى ميدان العمل، والمضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له حقيقة أشار إليها القرآن الكريم في مثل رائع، يجسد معنى المضاعفة، ويقرّب صورتها إلى أذهان السامعين، إنه مشهد من يبذر بذرة في أرض خصبة، فتنمو هذه البذرة وتكبر حتى تخرج منها سبع سنابل، العود منها يحمل مائة حبة، ثم تتضاعف هذه السنابل على نحو يصعب على البشر عده وإحصاؤه، كذلك حال المؤمن المخلص لربه المحسن في عمله، قال تعالى في محكم التنزيل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 261). ومضاعفة الحسنات زيادة على العشر إنما تكون بحسب حسن الإسلام، وبحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل العمل وزمن إيقاعه، وشدة حاجة الأمة إليه. وقد جاءَ فضل الله تعالى وكرمه في “باب الحسنات” قبل عملها، وعندَ عملها، وبعدَ عملها؛ فـ(قبل عملها) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)). و(عند عملها) قال عليه الصلاة والسلام: ((فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ)). و(بعدَ عملها) قال الله عز وجل {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114). وقال : {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الفرقان: 70).
2- الهم بالحسنات: لا يقتصر فضل الله عند حد الثواب على فعل الحسنات، بل يتسع حتى يشمل مجرد الهم والعزم على فعل العمل الصالح، فإن العبد إذا هم بالحسنة ولم يفعلها، كتب الله له حسنة كاملة – كما هو نص الحديث -، لأن الله سبحانه جعل مجرد إرادة الخير عملا صالحا يستحق العبد أن ينال عليه أجرا، ولا شك أن الهم بالحسنة سبب وبداية إلى عملها، وسبب الخير خير. لذلك، فمن فضل الله تعالى ومنته وكرمه أن جعل هم الإنسان بالعمل الصالح يكتب له حسنة ولو لم يعملها، وكذا إذا كان المسلم على عمل خير ثم حيل بينه وبينه كمن نوى قيام الليل فغلبه النوم أو غلبه المرض أو أي عارض ونحوه كتب له من العمل ما كان يقوم به أو ينويه ولو لم يعمله.
د. إبراهيم بلبو
———
(1)- الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب حديث (131).
(2)- “جامع العلوم والحكم” لابن رجب الحنبلي البغدادي (ت 795هـ)، دار الفجر للتراث، القاهرة، 1431هـ/ 2010م، ص: 571.
(3)- “الحسنات والسيئات” لابن تيمية (ت 728هـ)، تقديم محمد جميل غازي، دار الكتب العلمبة، بيروت، 1971م، ص: 17.
(4)- “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” لابن حجر العسقلاني (ت 856هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت- لبنان، 1379هـ، ج 11، ص: 324.
(5)- “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” لابن حجر العسقلاني، ج 11، ص: 323.
(6)- “جامع العلوم والحكم” لابن رجب الحنبلي، ص: 576.
(7)- “فتح الباري” لابن حجر العسقلاني، ج 11، ص: 325.
(8)- “فتح الباري”، م س، ص: 325.