عربية القرآن الكريم وبلاغته وفصاحته مشهود لها بالعديد من الآيات الواردة فيه، منها قوله تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}(الزمر/26-27)، وقوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(.يوسف : 2)، وقوله عز وعلا : {كتابٌ فصلت آياته قرءاناً عربياً لقومٍ يعلمون}(فصلت : 2) .إلى غير ذلك من الآيات البيِّنات التي وردت في أكثر من سورة. إن تأكيد عربية القرآن في القرآن ليس من قبيل التكرار البلاغي، وليس مما يتطلبه السياق، نعم قد يكون ذلك، ولكنه ليس هدفا في حد ذاته، لأنه لا يوجد كتاب في حدود ما هو متعارف عليه، مكتوب بلغة معينة، ويتحدث فيه صاحبه أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة، بأنه يكتب بتلك اللغة. ولذلك فإن حديث القرآن الكريم عن عربيته لا يكون إلا لمعجزة، كل جيل من الأجيال يدرك منها ما يناسب عصره، مهما تعددت الآفاق والأزمان. لقد تحدث القدماء عن أن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يكون كتابه الخاتم معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، فتحداهم به فلم يستطيعوا nوهم أرباب الفصاحة والبيان- أن يأتوا ولو بأقصر سورة منه. لكن ليس هذا هو مَكْمن الإعجاز فقط. هناك أكثر من سِر، ولعل أكبر مَكْمَنٍ للأسرار الربط في أكثر من آية بين عربية القرآن وبين العقل {لعلكم تعقلون}، أو بينها وبين العلم: {لقومٍ يعلمون}، أو بينها وبين التذكُّر: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون}(الدخان : 55)، وتارة بين عربيته وبين التقوى: {لعلهم يتقون}، وتارة ثالثة بين عربيته وبين تبليغ الدعوة للناس أو إنذارهم: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}(الشعراء: 192-195)، {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها}( الشورى : 5). هذا مع تأكيد خلوه من أي اعوجاج في اللفظ أو المضمون: {قرآنا عربيا غير ذي عوج}، {ولم يجعل له عوجا}(الكهف :1). إن هذا الربط وهذا التأكيد دليل على أن القرآن الكريم بعربيته خطاب للعقل بامتياز، إذ أنه بقدر ما كان خطابا للقلوب والعواطف التي كان يستثيرها الشعر بجماله وفنيته، وتستنفرها الخطابة بحماستها وجَيَشانها، حتى غدا أصحابها قادة للعالم في ظرف قياسي، فِكراً وعلما وحضارة وسياسة، هو أيضا خطاب للعقول النيرة المفكرة المتدبرة في أمر هذا الكون. فالقرآن الكريم بعربية لغته التي لا عوج فيها شكلا ودلالة، فيه من الأسرار ما لا يمكن أن يستخرج مكنونها إلا أولوا الألباب الذين آمنوا، الذين أوتوا العلم، والذين هم بهذه العُدّة الإيمانية والعلمية، بَعْد العلم والتقوى، قادرون على أن يقودوا العالَم ليكونوا بذلك مبلِّغين للدعوة منذرين للناس، ولا يكون ذلك إلا بالعربية. ومعلوم أن الربط بين العقل والإيمان ورد في أكثر من آية، منها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}(الطلاق : 10). إن القرآن الكريم التي جمع في الماضي ببلاغته القبائلَ المتفرقة المتناحرة التي لم يجمعها الشِّعر، رغم تفانيها في حبها له، ورغم بذلها الغالي والنفيس في سبيله، قادر -بما تضمنه من قيم ومبادئ إنسانية واجتماعية وتشريعية وعلمية وغير ذلك- على أن يبعث الروح من جديد في هذه الأمة، بل وفي الإنسانية جمعاء، إن هي أقبلت عليه، وتدبرته من حيث هو قرآن أنزل بلسان عربي لقوم يعقلون ويتقون.