عندما يُرى الحق باطلا والباطل حقا، وتُرى الاستقامة بلادة وتخلفا، والانحراف شطارة وتطورا، وترى الطهارة مثلبة والقذارة محمدة، وعندما يسمى الانحلال تحررا وانفتاحا، والانضباط لفضائل الأخلاق تحجرا وانغلاقا، وعندما تسمى محارم الله “طابوهات” يعتبر التجرؤ عليها بكسرها وتحطيمها في أعين المتجرئين عليها بطولة وجسارة، بينما يسمى الوقوف عندها باحترام وإجلال هزيمة ونكارة، وعندما يُعتبر المتمسكون بأحكام الدين الراعون لحدود الله رجعيين ظلاميين، ويعتبر المنكسون على رؤوسهم بخرقها وانتهاكها تقدميين متنورين، عندما تحصل هذه الاختلالات على ظهر سفينة المجتمع، فإن انتكاسة رهيبة تكون قد ألمت بمكوناتها وجميع مفاصلها، بل إن تشوها خطيرا ومريعا يكون قد بدأ يزحف نحو أجهزة الضبط والمناعة فيها، يكون من نتائجه اختلال الموازين اختلالا. وإذا ما استتب الأمر لمن يتولون كبر الإشراف على عمليات هذا الانقلاب الخطير، فإن السفينة تكون قد شارفت على الوصول إلى وضع منكوس، تنتكس فيه الفطرة، ويغرق الناس في حمأة استلاب بغيض. وإن من مظاهر اليمن وحسن الطالع لدى أهل السفينة أن يحتضنوا ضمن صفوفهم وشرائحهم خلايا نابضة بالحياة، ناضحة بالصدق والوفاء، مدججة بالغيرة على ميراث السفينة، والحرص على طهرها وسلامتها، مستعدة للاستماتة في سبيل ذلك، واسترخاص كل غال ونفيس. إن ما حصل مؤخرا على ظهر سفينة المجتمع المغربي من فصل لأحد أعضائها الأنقياء من وظيفته، وحرمانه من رزقه ورزق عياله، لا لشيء، إلا لكونه قد التزم في تعامله مع امرأة في مركز من مراكز المسؤولية العليا في جهة من الجهات، بما يراه منسجما مع ما يؤمن به من مبادئ أخلاقية، ويعتبر في صميمه عنصرا صغيرا من عناصر الميثاق الذي من المفروض أن ينزل عند بنوده ومواده أهل السفينة كلهم جميعا، إلا ما اقتضت بعض تلك المواد استثناءه لعلة من العلل، مما يقدر رعاة السفينة وربابنتها أحكم الأساليب للتعامل معه ومعالجته، بما يحفظ للسفينة سلامتها، وتوازنها وأمنها، أقول: إن هذا الذي حصل ليعد من الغرابة بمكان خصوصا ونحن في بلد مسلم، والأمر يتعلق بتطاول سافر على كرامة إنسان له موقعه الاعتباري في النظام الاجتماعي والإداري داخل مجتمع السفينة، فضلا عن التطاول عليه باعتباره مواطنا له حقه المشروع في أن يطبق ما يقدر عليه من تعاليم دينه ولو في أبسط مظاهره وتجلياته( عدم مصافحته للمرأة، مهما كانت الذريعة التي يمكن أن يتذرع بها لمخالفة المبدأ الخلقي). إن خطورة هذا الفعل التعسفي الذي مورس ضد إطار محترم في السلم الوظيفي داخل سفينة المجتمع المغربي، تتجلى في مرض انتكاس المقاييس، الذي يخول للمصابين به في قمة الهرم الإداري أن يقولوا للمحسن أسأت وللمسيء أحسنت، بما يترتب عن ذلك من معاقبة المحسن ومكافأة المسيء، وهذا -لعمر الحق- مدخل للشر عريض، ومظهر لإصابة بليغة في صميم الجهاز المناعي وصمام الأمان في تلك السفينة، يفتح معها المجال لاستشراء العلل والأمراض، وسيادة الفوضى الفكرية والأخلاقية، وضياع المرجعية الصلبة التي تمثل سر وجود السفينة، ومرفأها الآمن، الذي تلتقط فيه أنفاسها وتجدد عزمها على الضرب في الآفاق، وتحقيق ما هو منوط بها من أهداف وغايات تتعلق برسالتها الكبرى في هذه الحياة. غير أن ما يخفف من وطأة هذا الذي ضجت له سفينة المغاربة، هو تداعي أصوات الشرفاء الغيورين على شرفها ومصيرها إلى استنكار هذا التعسف الشنيع، وتسجيل استغرابهم له بكل وضوح، مما جعل السحر ينقلب على الساحر، ويبعث الإحساس في النفوس بالاطمئنان إلى أن السفينة لا تزال بها بقية من خير، قمينة بمجالدة جحافل الشر وبؤر الفساد والانحراف، ويدق ناقوس الخطر، في نفس الوقت، في عموم أرجاء السفينة، تحذيرا من انتشار مرض فقدان المناعة المكتسب الذي يوشك أن يهاجم مراكز التحكم في دواليب السفينة، فضلا عن طبقات عريضة ممن فاتتهم فرص التلقيح ضده، أو فرص العلاج منه، بعد خوض صراع شرس معه. إنه مما يحز في النفس، بل مما يفجر الغيظ العارم فيها، أن يؤخذ الأبرياء بغير ذنب اقترفوه، نكاية فيهم، ومحاربة لما يمثلونه من قيمة رمزية تتمثل في إقامة الحجة على المتذبذبين والمتخاذلين، ونصب القدوة أمام السالكين الذين يحرصون على أن يظلوا متصالحين مع ذواتهم ومبادئهم، وأن يُعفى -على العكس من ذلك- المنحرفون الأشقياء، ممن ملؤوا السفينة بالمفاسد والشرور، أن يُعفوا تحت ذرائع واهية ما أنزل الله بها من سلطان، أو تحت مقولات توظف في غير سياقها الصحيح، ليكون ذلك مثل سوء أمام مرضى النفوس، ممن يملكون القابلية للانحراف والإفساد، ومدعاة لتمادي هؤلاء المنحرفين الأشقياء في أداء أدوارهم التخريبية القذرة داخل سفينة المجتمع. إن مثل هذه الوقائع الغريبة، والمواقف الشاذة التي تكون سفينة المجتمع مسرحا لها، فضلا عن كونها تنبه أهل السفينة إلى ما يمكن أن يحدق بهم من أخطار، تفضح أدعياء الدفاع عن حقوق الإنسان متعددي اللافتات والألوان، ممن يخرسون خرس الشيطان، إزاء أي تعسف أو انتهاك ينال فردا من الأفراد، أو شخصية اعتبارية من الأشخاص، ما دام الأمر يتعلق بمن لا تربطهم بهم أية آصرة من أواصر “الإيديولوجيا”، بل ممن يعدونهم من الأعداء الإيديولوجيين، الذين يعتقدون مشروعية الإطاحة بهم كلما سنحت لهم الفرصة، فضلا عن مشروعية سلقهم بألسنة حداد، وتسفيه مواقفهم بكل ما تأتى لهم من سبل. لقد آن الأوان لأن تعم أهل السفينة بكل ألوانهم ومشاربهم واتجاهاتهم، حركة دؤوبة لترسيخ الوعي بمقتضيات الميثاق الذي يشكل مرجعية السفينة الواجب الصيانة والاحترام، ورسم الخطوط الحمراء التي لا يجوز لأي كان تخطيها واختراقها، وفق ذلك الميثاق نفسه، أما أن يترك الميثاق على الرف وتتحرك الأهواء، والنزعات الرعناء، فذلك إيذان باندلاع الطوفان وصدق الله القائل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(المائدة:50)
د. عبد المجيد بنمسعود