روى الإمام أحمد عن عبد الله بن سلمة قال: ((قال عمار: لما هجانا المشركون شكونا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((قولوا لهم كما يقولون لكم)). قال: فلقد رأيتنا نعلمه إماء أهل المدينة))(1). هذا النص من أربعة أقسام: مناسبة، وشكوى، وجواب نبوي، ثم رد. أما المناسبة فهي هجاء المشركين للمسلمين، ونحن نعلم أن هذا الهجاء انطلق مباشرة وبشكل غزير منذ انهزام قريش في معركة بدر، والراجح أن تكون هذه هي مناسبة الحديث؛ لأننا نعلم يقينا أن ذلك شكل نازلة استدعت تدخلَ النبي صلى الله عليه وسلم، واستدعاءَه الشعراء الثلاثة: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، واستماعه ردهم، واختياره حسان ليكون شاعره والمكلف الرسمي بالرد(2)، وأما فيما بعد، فقد كان حسان بالمرصاد لمن هجا الإسلام والمسلمين، وقد رأينا في حديث سابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع له منبرا بالمسجد يهجو عليه من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يطمئن القلب إلى أن يكون هذا الحديث قد ورد في هذا السياق. وأما الشكوى، فلسببين: أولهما ما عهدناه من حرص الصحابة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جدّ من أمورهم، وطلبهم الحكم في النازلة، وثانيهما ما قلناه قبل قليل من أنهم لا سابقة لهم في الموضوع، إذ لا يتصور أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رخص لهم في هجاء المشركين مِن قبْل ثم يفزعون إليه هذا الفزع إلى درجة التعبير عنه بالشكوى، ومما لا شك فيه أنهم لم يلجؤوا إلى الشكوى إلا لأن الهجاء كان مؤثرا. وأما الجواب النبوي ((قولوا لهم كما يقولون لكم))، فله رواية أخرى عند البزار هي: “أجيبوهم))(3)، وهذا اللفظ منسجم مع لفظ آخر صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله لحسان بن ثابت: ((أجب عني))(4)، ومنسجم مع قول حسان استجابة لتكليف نبوي بالرد مخاطبا أبا سفيان: هَجَوتَ محمدا فأجبتُ عنـه وعند الله في ذاك الجَـزَاءُ(5) وسواء أكان اللفظ النبوي هو هذا أم ذاك فإن المقصود منه ثلاثة أمور: – ترخيصه صلى الله عليه وسلم في الرد. – ورود ذلك بصيغة الأمر ((قولوا لهم، أجيبوهم)). – ربط الرد بالاعتداء. ومن ذلك يُفهم أن مساحة التصرف مقصورة على الرد، وأن مَن لمْ يَهْجُهم من المشركين في المناطق الأخرى فلا ترخيص للمسلمين في هجائه، فالهجاء هنا رَدٌّ على اعتداء، وليس ابتداءَ الاعتداء. وأما الرَّد فيُفهم من قول عمار: “فلقد رأيتنا نعلمه إماء أهل المدينة”، وفيه أمور: أولها أنهم رَدّوا على الهجاء. وثانيها أن الرد لم يَقتصر على شخص دون آخر؛ بل كل من كانت لديه القدرة على ذلك فقد فعل. وثالثها أن المسلمين وسعوا دائرة المشاركة في الرد؛ لأن الأذى الناتج عن هجاء المشركين كان مجاله واسعا. ورابعها أن الأمر لم يقتصر على من كانوا شعراء؛ بل تجاوزه إلى تعليم إماء أهل المدينة، وهذا يحتمل معنيين: كونهم علّموا الإماء ما قالوه من هجاء، كتحفيظهن إياه مثلا؛ ليكون ذلك من باب نشر الرد، وشفاء النفوس مما أصابها. وكونهم علّموهن كيفية الهجاء ليشركوهن في الرد، ولتوسيع دائرة ذلك، فيكون هذا من باب تجييش الأمة، وإعدادها لهجوم المشركين. وقد يكون فيه من الفوائد أن عمارا كان شاعرا، وأن اسمه ينبغي أن يضاف إلى قائمة الشعراء الصحابة(6). وعلى كل حال فحديث الباب من الأحاديث المرتبطة بغرض الهجاء، إلا أن مجال هذا الغرض هو العلاقة بين المسلمين والمشركين الذين هجوهم، وأما هجاء المسلمين أو هجاء المشركين الذين لم يحاربوا المسلمين ولم يهجوهم فلا تعلق لحديث الباب بهم، ومن ثم فنحن أمام تضييقٍ لنطاق الهجاء، وقصره على اتجاه واحد، وربطه بالاعتداء والمعتدين. وفي الحديث أيضا أن الاعتداء على الأمة يقابله إحساس جماعي بالضرر، وبحث جماعي عن الحل، ولجوء إلى الله ورسوله قبل كل شيء، ومبادرة جماعية لرفعه، وإخضاع هذه المبادرة لميزان الشرع، وتجييش الأمة بمختلف فئاتها للدفاع عن كينونتها، وتلك لعمري هي الأمة الحية المتفاعلة مع عصرها، والمخضِعَة حياتَها لميزان شرْع ربها.
د. الحسين زروق
—–
1- مسند أحمد، 14/134، حديث رقم 18230. قال محققه: “إسناده حسن لأجل شريك”. وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد، 8/124) وقال: ((رواه أحمد والبزار بنحوه والطبراني، ورجالهم ثقات)).
2- ن. صحيح مسلم، 16/41-44، حديث رقم ، 2490، ك. فضائل الصحابة، ب.فضائل حسان… وستكون لنا مع هذا الحديث وقفات إن شاء الله تعالى.
3- مسند البزار، حديث رقم 1423.
4- صحيح البخاري، 2/307، حديث رقم 3212، ك.بدء الخلق، ب.ذكر الملائكة صلوات الله عليهم.
5- صحيح مسلم، 16/42، حديث رقم ، 2490، ك.فضائل الصحابة، ب.فضائل حسان…
6- ن. تعليق ابن هشام على بيتي عبد الله بن رواحة “خلوا بني الكفار” السالفي الذكر في الباب السابق. سيرة ابن هشام، 4/7.