روى ابن ماجة «عن عائشة قالت: قال رسول الله : «إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها، ورجل انتفى من أبيه وزَنَّى أمَّه»(1).
هذا حديث آخر من أحاديث غرض الهجاء، ومقارنته بالأحاديث الأخرى المرتبطة بهذا الغرض تفيد أمرين:
أولهما أن الأحاديث السابقة موضوعها هجاء المشركين، فالهجاء فيها متجه نحو الجبهة الخارجة حيث العدو، وقد رخص الرسول فيه، ولاسيما بعد أن هجا المشركون المسلمين وآذوهم.
والأمر الثاني هو أن حديث الباب يتفق مع تلك الأحاديث في كونِ غرضه الهجاء، لكنه يختلف عنها في كون موضوعه هو هجاء المسلمين، أي الهجاء الذي صرفه أصحابه نحو الجبهة الداخلية.
وقد يتبادر إلى الذهن أنه لا موجب لقصر دلالة الهجاء في حديث الباب على المسلمين، وأنها عامة تشملهم وتشمل غيرهم، وهذا ما يردّه واقع الهجاء في زمن النبي ، ولاسيما منهج حسان بن ثابت في هجاء المشركين، وقد روى ابن عبد البر عن ابن سيرين أنه «كان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم في قولهم في الوقائع، والأيام، والمآثر، ويذكران مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر»(2)، فإذن لا معنى لحمل الحديث على أن أعظم الناس فرية من هجا المشركين من المسلمين.
وإذا كان الأمر كذلك، تبين أن مجال حديث الباب هو حماية الجبهة الداخلية، ومنع توسيع دائرة الخصومة بين المسلمين.
وحديث الباب من ثلاثة أقسام: أولها لمن «هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها»، وثانيها لمن انتفى من أبيه، وثالثها لمن زنى أمه.
وإذا كان القسم الأول صريحا في الشعر وغرض الهجاء، فإن القسمين الآخرين لا علاقة لهما بغرضنا من هذا الشرح إلا مِن حيث كونهما قد يقعان في الشعر، أو بسببه، وهو ما يفيده السياق الجامع لذلك كله، فيكون معناهما أن من انتفى من أبيه وزنى أمه في شعر وغيره فهو من أعظم الناس فرية، وحسبنا هذا هنا، ولذلك فالقِسم الأول هو محل الشاهد عندنا لصراحته في الموضوع.
وفي هذا القسم ثلاثة أمور:
أولها يُفهم من قوله : «لرجل هاجى رجلا»، وفي رواية الإمام البخاري في الأدب المفرد «إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها»(3).
فرواية ابن ماجة صريحة في أن الأمر يتعلق بمهاجاة، وظاهر الرواية الأخرى وإن كان لا يُفيد ذلك، إلا أن سياقها يََسمح بفهمه، ومعنى ذلك أننا أمام تهاج بين شاعرين، وأن أحدهما يهجو الآخر.
والأمر الثاني يُفهم من قوله: «فهجا القبيلة بأسرها»، وذلك بأن لا يقتصر الهجاء بين الرجلين المتهاجيين عليهما؛ بل يتعداهما إلى قبيلتيهما، فتتسع دائرة الهجاء، ويصير الأمر هجاء بين القبائل بعد أن كانت بين الأفراد.
والأمر الثالث يُفهم من قوله: «إن أعظم الناس فرية» وفي الرواية الأخرى «جرما»(4)، ففيه أن هذا الذي يوسع دائرة الهجاء لتنتقل من خصمه الذي يهاجيه إلى قبيلة الخصم أعظم الناس فرية وجرما.
وظاهر من كلام النبي أنه يُريد أن يقلص مجال الخصومة، ويمنعه مِن أن يتسع فينتقل من الأفراد إلى القبائل؛ لأن اتساع دائرته يهدد الأمة كلها.
على أنه ينبغي أن لا يُفهم من حديث الباب من النتيجة التي وصلنا إليها أن الرسول يُرخص في هجاء الأفراد ويسمح به، ذلك أن النبي عاب تعميم الخصوصة باستعمال اسم التفضيل: «أعظم»، وهذا يفيد أن المسلمين الذين يهجون إخوانهم نوعان على الأقل:
نوع هو شرّهم، وهو من هجا القبيلة بأسرها، وهو الذي عُبر عنه بلفظ «أعظم».
ونوع لا يخلو من شر، وشره عظيم، ولكنه أقل من شر النوع الأول، وهو من هجا مسلما ولم يُعمم.
وبناء على ذلك فهجاء المسلمين شر، والشرّ شرّان: عظيم، وأعظم منه، والأول ضرره على الأفراد، أما الثاني فضرره على الأمة كلها، فمن ثم بيّن النبي قبحه، وسكت عن الثاني لسببين:
أولهما أنه يُفهم من الحديث.
والثاني لأن الحديث عنه يَرد مرات في مناسبات عدة، ويندرج غالبا ضمن أحاديث آداب اللسان، وفيها كفاية، وحسبنا منها قوله : «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»(5)، وقوله: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء»(6).
د. الحسين زروق
—————
(1) – صحيح سنن ابن ماجة، حديث رقم 3044/3828، ك.الأدب، ب. ما كره من الشعر.
قال الألباني معلقا عليه: «صحيح»، كما أورده في الصحيحة أيضا(ح.ر 763 و1487).
(2) – الاستيعاب، ص: 165.
(3) – صحيح الأدب المفرد، حديث رقم 670/874.
(4) – صحيح الأدب المفرد، حديث رقم 670/874.
(5) – صحيح البخاري، 1/31، حديث رقم 48، ك. الإيمان، ب. خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(6) – صحيح سنن الترمذي، 2/370، حديث رقم 1977، ك. البر، ب. ما جاء في اللعنة.
وللمزيد من ذلك ينظر كتاب «الصمت وآداب اللسان» لابن أبي الدنيا.
جزاك الله خير وكتب الله لك أعظم الأجر والثواب
حبذا لو وضحت في الشرح ما لا يتعلق بالشعر ، كالننكت (الطرائف) على القبائل أو على الجنسيات أو غيرهما هل تدخل في هذا الحديث ؟