قد أقعدت شبه بعض المسلمين عن واجب الدعوة إلى الله عز وجل منها:
أولا: كون الدعوة فرض كفاية. والكفاية معناها أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقي، وهذا الفهم جعل كثيرا من المسلمين يتقاعسون عن واجب الدعوة وما علموا أن المسلمين مطالبون بإقامتها وإعانة القائمين عليها.
وللإمام الشاطبي رحمه الله كلام نفيس في ذلك قال: «إن فرض الكفاية واجب على الجميع على وجه من التجوز؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها، فالقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر إذ لا يتوصل إلى قيام إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (الموافقات 1/144).
ثانيا: كون الدعوة من اختصاص العلماء، وأنه من لم يكن عالما فغير مطالب بالدعوة إلى الله.
والجواب أنه إذا كان العلماء ورثة الأنبياء، وحملة دعوتهم إلى الأمم، فإن العلم يتجزأ ويتبعض، فمن علم مسألة وجهل أخرى، فهو عالم بالأولى، جاهل بالثانية. ومن ثم يكون الواجب عليه أن يدعو إلى ما علم لا إلى ما جهل، والرسول يقول «بلغوا عني ولو آية» وقال في حجة الوداع «فليبلغ الشاهد الغائب».
ثالثا: كون الداعي إلى الله عز وجل يلزمه أن يكون عدلا وعلى أعلى درجات الكمال.
وهذا من لزوم ما لا يلزم، وقد ذكر العلماء أنه لا يلزمه ذلك، وإنما يمتثل الأمر على قدر الاستطاعة قال تعالى:﴿ فاتقوا الله ما استطعتم (التغابن 16).
قال الحسن لمطرف بن عبد الله، عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول يود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال الإمام القرطبي: وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة… فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس، فإن تشبثوا بقوله تعالى:{أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}(البقرة 44) وقوله: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (الصف 3)..ونحوه قيل لهم: «إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر، ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى كما بيناه» (الجامع لأحكام القرآن).
ويرى الإمام النووي –رحمه الله تعالى- أن عليه الأمر، وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما فكيف يباح له الإخلال بالآخر !؟
ونقل ابن حجر في الفتح عن بعض أهل العلم أن الأمر بالمعروف يجب ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به.
وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره (فتح الباري).
ويتحصل مما سبق أن على الآمر والناهي واجبين: أن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر، ويأمر غيره وينهاه، فإن أخل بالواجب الأول فلا يسقط عنه الواجب الآخر.
رابعا: تفسير قوله تعالى ﴿ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ (المائدة 107) تفسيرا مناقضا لمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مدخل من مداخل الشيطان، ومصيدة من مصايده –كما ذكر الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان-
وقد خطب أبو بكر الصديق على منبر رسول الله فقال: «أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها. وإني سمعت رسول الله يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/479).
وقد ظهر مثل هذا الفهم زمن ابن مسعود وذلك أن رجالا خرجوا من الكوفة ونزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله ابن مسعود فأتاهم فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس فنتعبد. فقال لهم: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتهم فمن كان يقاتل العدو؟ ومن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فما زال بهم حتى رجعوا.
وإن المسلم في رحلة الدعوة إلى الله عز وجل يجب أن يكون له زاد يستعين به على أمرها.
وهذا الزاد يتلمس في القرآن الكريم، والسنة والسيرة النبوية، وسير السلف الصالح…
ليعلم الداعية إلى الله عز وجل: أن الدعوة إلى الله عز وجل سبيل النجاة في الدنيا والآخرة. وأنها الطريق إلى سلعة الله الغالية «ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة».
- وأن الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة.
- ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.
- وأن عين الله عز وجل ترعاه وتكلأه وتحفظه.
- وأنه محفوظ في عقبه إن شاء الله عز وجل لسعيه في الإصلاح.
- وأنه… وأنه … وأنه…
ولقد ظل النبي يتعهد الشخصية المسلمة بالتربية والتوجيه والترشيد إلى أن اكتمل نضجها بكمال الوحي، وتمام النعمة اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة 4).
نسأل الله عز وجل رب العرش العظيم أن يهدينا، ويهدي بنا، ويجعلنا سببا لمن اهتدى، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونضر الله امرءا قرأ مقالتي فوعاها، وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. زكريا المرابط