إذا كان الامتحان ـ كما بينَّا في العدد الماضي – مِحَكاًّ يُعز فيه المرء أو يهان، فإن من أسباب العزة الاستعدادَ الجيد والتهييء القبْلي، اللذين ينبغي أن يكونا على مدار السنة، وبطريقة مستمرة ثابتة وليس بشكل آني أو مَوْسمي، قبل الامتحان مباشرة بأيام أو حتى أسابيع.
ومما هو ملاحظ في مختلف مراحل التعليم أنّ الاستعداد للامتحان لا يكون إلا في الأيام القريبة من الامتحان، وكأن التدريسَ وُجد من أجل الامتحان، وليس من أجل التكوين والتثقيف، ولذلك فإن جُل المعلومات التي يكتسبها التلميذ أو الطالب أثناء فترة الاستعداد للامتحان القصيرة والمحدودة، سرعان ما تتبخر، وبشكل تلقائي بعد الامتحان مباشرة، لأن التحصيل كان فيها على عجل، ولم يُطبخ على نار هادئة كما يقال.
ليس هذا فقط، ولكن ضيق الوقت الذي يُخصص للاستعداد للامتحان، وكثرة المواد، فضلا عن الضغط النفسي الذي يصاحب التلميذ والطالب أثناء فترة الإعداد، كل ذلك يجعل من الامتحان كابوساً ثقيلا، يحاول فيه الممتحَنُ دائما التخلص منه بأبسط مجهود وأقل ثمن. ومن ثَم فإن أقرب طريق يراه العديد من التلاميذ والطلاب مسلكا سهلا هو الغش، الذي أصبح يشكل ظاهرة تستفحل مع مرور الأيام، إلى درجة أنه أصبح يشكل في العديد من المؤسسات الأصل، وما عداه الفرع.
لقد كتبت في هذا العمود وغيره عن قضية الغش أكثر من مرة، وأوضحت في كل ذلك مخاطر هذه الظاهرة، وعواقبها الوخيمة ليس على مستوى التحصيل المعرفي والتكوين العلمي فقط، ولكن أيضا على مستقبل البلاد والعباد، فالغش حينما يكون دَيْدَنَ طائفةٍ من العباد، فإن الطائفة الأخرى التي تبتعد عن الغش وتراه جُرما وظلما، ستكون مظلومة بكل تأكيد، لأنها وهي التي أفْنَتْ زهْرَةَ عمرها، ليلا ونهارا في الكدّ والجدّ، ترى جهودها تُسرَقُ نهارا جهارا من قِبَل الطائفة الأخرى التي قضت لياليها، فضلا عن نُهُرِها، في اللهو واللعب، إن لم يكن في مجالات أخرى، ثم لترى بعد ذلك أيضا وبِأُمِّ أعينها أن هذه الطائفة الغاشَّة قد حصدت في أغلبها النقط الجيدة، بينما باتت هي لا تراوح مكانها الحقيقي، ثم ليتلو كلُّ ذلك تبوُّؤ الطائفة الغاشة للوائح الأولى في المباريات، وربما حتى في التوظيف لأن الغاشَّ في الامتحان المدرسي، سيغش أيضا في الامتحان الجامعي وفي كل امتحان إلى أن يلج مجال العمل ليتبوّأ صدارة الغش فيه مع ما يتبع ذلك من ارتشاء وتسلط واستعلاء على الآخرين. ومن ثَمَّ تكون كارثة البلاد، وكارثة المستقبل علميا ومعرفيا، وسياسيا واقتصاديا، واجتماعيا وثقافيا، مما يسبب نوعا من الحقد الاجتماعي والكراهية نحو الآخر، لأن الغاش لا يقبل النزيه في محيطه، كما أن النزيه لا يستطيع التعامل مع الغاش، في أي مستوى كان.
إن آفة الغش عُرَّةٌ في جبين مجالنا التعليمي، وإذا وُجد في التعليم فإنه سيوجَدُ حتما في كل مجال، فالتعليم هو المنبع والمجالات الأخرى هي المَصَبّ، ولعل قول القائل يصدق على هذا المجال بقوله :
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ
مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحُ فَسَدْ؟
ولذلك فإن محاربة الغش محاربة جادة، ووضع برنامج عملي في ذلك، للقضاء عليه أو الحد من استفحاله على الأقل، يُعدُّ من أولويات الإصلاح، وإن الزَّعم بأن هناك قوانين رادعة للغاشين مثل التوقيف المؤقت أو النهائي، أو حتى التقديم إلى المحاكمة، فهو ذرُّ للرماد في العيون لا غير، إذ أن الكل يعرف مدى مصداقية هذه القوانين ومدى فعاليتها في الواقع الراهن.
د. عبد الرحيم الرحموني