يضم هذا البحث بالإضافة إلى التوطئة والخاتمة خمس نقاط وهي:
- الإشكال تاريخي أولا .
- في الحاجة إلى استئناف تجديدي شامل في العلوم الإسلامية وبناء أصول فكرية مستوعبة.
- في تحديات الجبهة الخارجية.
- قضايا معاصرة أمام الفكر الإسلامي.
- في معالم المنهاج القرآني البنائي للفكر والعلوم.
سنعرض في هذا العدد النقطتين الأوليين منها، على أن نعرض في العدد القادم إن شاء الله النقاط الثلاثة الأخيرة.
توطئة:
لا شك أن للعلوم، كل العلوم، غايات ومقاصد، تحقق الرؤى والفلسفات الكامنة وراءها والمؤطرة لها. والعلوم الإسلامية لا تشد عن هذا الاطراد. بل هي أكثر العلوم، إطلاقا، ارتباطا بالغائية والمقصدية لارتباطها بالدين. وأعتقد أن غايات ومقاصد العلوم الإسلامية ثلاث كليات لا تكاد تخرج عنها:
أن تحقق الهداية والصلة بالله تعالى.
أن تخرج الإنسان المستخلف الحامل للرسالة.
أن تبني مجتمعها وتسهم في إعمار الكون من حولها.
وهذا الذي فعله الإسلام في صدره الأول، حيث كانت هذه الأهداف مجتمعة غير منفصلة ومتكاملة غير متقابلة، تشكل دوافع الإنسان للبذل والعطاء والبناء، وتوجه علوم وثقافة الأمة في بنائها الذاتي أو في ساحة التدافع والتعارف الكوني.
لكن الناظر إلى حال هذه العلوم، راهنا وتاريخيا، يجد أنها لا تكاد تحقق واحدة من تلك الغايات والمقاصد، فكيف بها مجتمعة. وهذا ما يطرح تساؤلا حول مادة هذه العلوم نفسها، التي تحتاج إلى إعادة بناء أو استئناف من داخل الأصول المؤسسة لا من خارجها. فهناك أصول تؤسس المعرفة باعتبارها أساسات ومنطلقات ذات قدرة استيعابية كبيرة لخاصية الإطلاق فيها وهذا لا يكون إلا للوحي. ثم هناك أصول أسستها المعرفة في صيرورتها التاريخية كان من المفترض أن تخضع لتجديدات وبناءات مستأنفة لخاصية النسبية فيها وهذا شأن كل إنجاز بشري. لكن للأسف، تاريخيا، كان الاشتغال بما أسسته المعرفة لا بما يؤسسها. ثم في منظومة الإسلام التوحيدية الموحدة لا يمكن لتلك الغايات أن تنفصل عن بعضها أو تستقل وإلا اختل النظام كله وتعذر الإنجاز، وكنا كما نحن الآن، أمام تحيزات ونزعات لا أمام معرفة متحققة بشروط وجودها، الغائية والاستخلافية والإنسانية.
لذا، فالحاجة داعية إذن إلى النظر المنهجي الكلي إلى هذه العلوم من زاوية منطلقاتها وأصولها، ومن زاوية أهدافها وغاياتها، ما تحقق منها وكيف؟ وما لم يتحقق منها ولم؟ وهذا الذي نروم تقريبه من خلال هذه المعالجة المنهجية السريعة.
1 – الإشكال تاريخي أولا :
ذكر السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» عن الحسن البصري، قوله بأن أصول الانحراف في الأمة، أصلان كبيران. أما الأول فهو طروء أو ظهور فرقة الخوارج، أما الثاني فهو فساد نظام الحكم. ولا يخفى أن العلة الأولى هي إشارة إلى الانحراف الفكري التصوري سواء في جانبه العملي (استباحة دم المخالفين) أو في جانبه العقدي (تكفير مرتكب الكبيرة، الحاكمية لله)، حيث كانت فرقة الخوارج من أوليات الفرق التي نظمت مقولاتها في أطر منهجية عملية وعقدية تصورية ثابتة وقارة، وخاضت من أجلها معارك وحروبا.
ثم إن الإشارة إلى هذه الفرقة، بقدر ما هي إشارة إليها بالذات، هي إشارة كذلك بالتبع، أي لما تلاها وتبعها من فرق تعددت وتفرعت وانقسمت بالشكل الذي تمزقت به وحدة الأمة في أسسها العقدية كما في تجلياتها العملية. خاصة إذا أضفنا إلى هذا، انقلاب وظيفة الكلام من الدفاع إلى الاحتراب الداخلي في قضايا الغيب والعقيدة التوقيفية. وكونه تزامن مع ركود وجمود مماثل شمل الجانب الفقهي (في إطار المذاهب) بعد انتهاء مرحلة الأئمة المؤسسين.
ولنقل إن هذا الطابع العام الذي وجه فكر الأمة وثقافتها، وفيه تقررت علوم ومفاهيم، وتأسست تصورات وأفكار، تخص قضايا المسلمين في مجتمعاتهم وعلاقاتهم الداخلية، كما تحدد تصوراتهم وعلاقاتهم بالآخر الأجنبي عنهم. هذا دون أن نغمط الاستثناءات التجديدية حقها، على المستوى الفكري العام أو المتخصص، بدءا بالإمام الشافعي نفسه وليس انتهاء بالسيوطي كما زعم، والتي ما يزال معظمها في حيز الكمون دون الاستثمار اللازم.
أما الإشارة الثانية فمتعلقة بفساد نظام الحكم وانحرافه عن المنهج الشوري وغلبة مظاهر الاستبداد والجور عليه. وليس غرضنا تتبع هذا الجانب وإن كان لا يخرج عن كونه قضية من القضايا الفكرية في الأمة كذلك.
فهذه جبهة الذات، حيث نمت وترعرعت العلوم الشرعية قاطبة، وحيث عرفت في مجملها دورانا محليا دون استئناف تجديدي يؤهلها للمواكبة. وإذا كان الأصل في هذه العلوم أن تكون تابعة للوحي الخالد تتجدد بتجديد النظر فيه، والكشف عن جوانب من مكنونه، فإن الإشكال الكبير الذي وقعت في أَسْرِه إلى الآن، أنها استقرت على أسس تاريخية (مذهبية وفرقية وحزبية طائفية..) أكثر منها شرعية، وأضحت متبوعة باعتبارها أصولا ثابتة لا تتغير. فأخذت بالممارسة التاريخية من صفات الوحي ما لا يجوز إلا للوحي، وتصدرت مكانه وأمسى الوحي تاليا لها في الرتبة والاعتبار شاهدا لها لا عليها. ولهذا نحن، في الغالب الأعم، لا نَدْرس ولا نُدَرِّس في جامعاتنا من القرآن إلا علوما تاريخية، ولا من السنن إلا فنونا منهجية، ولا من الفقه إلا تاريخه، ولا من الفكر والعقيدة إلا تاريخهما، حتى إنه ليصح أن يقال: إننا كائنات تاريخية تراثية، ولسنا كائنات لها تاريخ وتراث تأخذ منه وتذر. أما فقه القرآن والسنة نصا لتحقيق الكسب الفكري والمعرفي الراهن والمواكب لقضايا الإنسان المعاصر بما يجسد فعلا استيعاب رسالة الختم للزمان والمكان، فهذا الغائب الأكبر، ليس في مناهج ومقررات الدراسة فحسب، بل في اهتمامات رجال الفكر والعلم والإصلاح كذلك.
لذا تحتاج هذه الجبهة إلى عمل يعيد للأصول والمصادر ترتيبها العادي، تجعل القداسة للوحي المهيمن والمصدق وتنزعها عن الفكر البشري. تمارس بالقرآن وصحيح السنة على التراث الفكري الإسلامي ما مارسه القرآن نفسه على التراث الفكري البشري منذ بداية تنزله إلى نهايته. وهذا ورش كبير لم يدشن بعد بحث منتظم فيه بالمنهج الإسلامي الذي ألمحنا إليه، والذي سنأتي على ذكر بعض من معالمه ومقوماته لاحقا. بل على العكس من ذلك نجد أن معظم «المشاريع» المنجزة في هذا التراث وحوله، هي بمفاهيم مادية جدلية، وتاريخية، أو علمانية، أو قومية.. قائمة أصلا على استبعاد النص ولو كان مؤسسا بدعاوى متهافتة، مما يجعل أمر المعالجة التاريخية تستلزم درء شبهات معاصرة، تزداد حولا بعد آخر أمام تأخر مشروع البناء والمراجعة الذاتي.
2 – في الحاجة إلى استئناف تجديدي شامل في العلوم الإسلامية وبناء أصول فكرية :
وفيه ثلاث قضايا أساسية:
1 – لا يخفى أن العلوم الإسلامية نشأت ابتداء من الوحي، انبثقت عن الكتاب والسنة، ثم توسعت في التاريخ واستقرت على أوضاع معينة. فالأصل فيها أن بينها وحدة عضوية موضوعية لوحدة الأصل والمصدر. وأن الخيط الكلي الناظم لكل هذه العلوم ينبغي أن يعكس تكاملها ودورانها مع الأصل حيث دار، بل وأن تنعكس فيها خصائصه من شمولية واستيعاب وعالمية ووسطية وواقعية وإنسانية وغيرها… والناظر إلى واقع هذه العلوم التاريخي والراهن، يلحظ أن كلا منها يكاد يدور في فلك خاص وأطر مرجعية ومنهجية خاصة. حتى لكأنها جزر منفصلة عن بعضها البعض، ذات أسوار وجدر منيعة، وأن فيها من التجريد والصورية أكثر مما فيها من الواقعية لتعطلها عن المواكبة العملية. أما عدم تفاعلها الإيجابي مع السنن الكونية والاجتماعية، فأدى من جهة، إلى تعطل جبهة العلوم الكونية والمادية فكان العجز الشامل عن بناء النماذج الحضارية الذاتية. ومن جهة أخرى، إلى تعطل جبهة العلوم الإنسانية. فكان العجز عن بناء نموذج الإنسان المسلم السوي. وهما الآن (أي العلوم المادية والإنسانية) من أهم مداخل استضعاف الأمة واستلابها لنماذج الغرب ذات الشوكة والغلبة. لم ينعكس إذن في هذه العلوم جدل الغيب والإنسان والطبيعة كما هو في القرآن وكما قدمته السيرة النبوية والقرون الأولى الخيرة، حيث كان النسق مفتوحا وحيث كانت الرؤية كلية، تنظر إلى الإنسان على أنه أسرة ممتدة، وإلى الأرض على أنها مجال الاستخلاف والتعمير، وإلى الرسالة على أنها للناس كافة… قبل أن ينغلق النسق وتنكمش الرؤية في أطر مذهبية ومدرسية ضيقة.
2 – يضاف إلى هذا الإشكال، إشكال آخر متفرع عنه متعلق بتصنيف هذه العلوم وترتيبها المنهجي والمدرسي التعليمي. كالتمييز بين العقيدة والشريعة والعادات والعبادات، ومدرسة الرأي ومدرسة الأثر، والعقل والنقل والحكمة والشريعة إلى آخره… حيث تطور الأمر إلى صيغ معاصرة تعكس الصراع نفسه (كالأصالة والمعاصرة – والحداثة والتقليد… والعقلانية والشرعانية – البيانية والبرهانية…إلى آخره). مما أسس، من جهة، ثنائيات تقابلية لا يقوم أحدها إلا على نقيض الآخر، توجه ثقافة وفكر الأمة إلى المزيد من الصراع والاحتراب الداخلي، ويمنع أو على الأقل يؤجل، بناء الفكر الموحد المستوعب لهذه الثنائيات في سياق تكاملي لا تقابلي. والقرآن كله وهو نص، خطاب عقل وفكر وتدبر واعتبار وسنن آيات.. مما بإمكانه أن يؤسس معرفة برهانية وعقلانية سننية، كونية وإنسانية، بما في ذلك قضايا الإيمان والاعتقاد الصرف. ويحتاج في هذا السياق إلى تحرير الثنائيات من الصراع التاريخي والمعاصر، أي من التقابل إلى التكامل، وبنائها بناء معرفيا وفق منهج تتكامل فيه مصادر المعرفة (نصا وعقلا وواقعا)، حيث بالإمكان استيعاب أطروحات الغرب وتجاوزها.
تعكس الصراع نفسه (كالأصالة والمعاصرة – والحداثة والتقليد… والعقلانية والشرعانية – البيانية والبرهانية…إلى آخره). مما أسس، من جهة، ثنائيات تقابلية لا يقوم أحدها إلا على نقيض الآخر، توجه ثقافة وفكر الأمة إلى المزيد من الصراع والاحتراب الداخلي، و يمنع أو على الأقل يؤجل، بناء الفكر الموحد المستوعب لهذه الثنائيات في سياق تكاملي لا تقابلي. والقرآن كله وهو نص، خطاب عقل وفكر وتدبر واعتبار وسنن آيات.. مما بإمكانه أن يؤسس معرفة برهانية وعقلانية سننية، كونية وإنسانية، بما في ذلك قضايا الإيمان والاعتقاد الصرف. ويحتاج في هذا السياق إلى تحرير الثنائيات من الصراع التاريخي والمعاصر، أي من التقابل إلى التكامل ،وبنائها بناء معرفيا وفق منهج تتكامل فيه مصادر المعرفة (نصا وعقلا وواقعا)، حيث بالإمكان استيعاب أطروحات الغرب وتجاوزها.
من جهة أخرى، أسس تصنيف العلوم المتقدم إلى التمييز بين العقيدة وأحكامها، وبين السلوك والمعاملات أو الشريعة وأحكامها، وبين الفكر وتأملاته ونظراته. فبدت الأعمال والأفكار وكأنها مستقلة ولا علاقة لها بأطرها العقدية الموجهة، فنمت في الأمة وشاعت مظاهر الإرجاء والجبر والتعطيل والتواكل والسلبية… ما تزال تشتغل في الأمة فكرا وسلوكا بصيغ وأشكال مختلفة إلى الآن. ويحتاج في هذا السياق كذلك إلى وصل الفكر والعمل، كل الفكر والعمل بالمقومات العقدية والإيمانية لكونهما كيانين لا ينفصلا