- يدور الأصل اللغوي للمعرفة على التتابع والسكون والطمأنينة.
جاء في مقاييس اللغة : العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدُهما على تتابُع الشيء متَّصلاً بعضُه ببعض، والآخر على السكون والطُّمَأنينة».
- بالنظر إلى موارد المعرفة في القرآن الكريم، نجد أنها تشمل معنى وقوع شيء على نحو مطابق لسابق علم به، حيث تطرد هذه الدلالة في جميع الاستعمالات القرآنية لمصطلح المعرفة، من ذلك قول الله تعالى:
- وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين (البقرة 86).
- وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة 83).
فمعرفة اليهود في الآية الأولى والنصارى في الآية الثانية، انبنت على علم سابق من الكتابين بالحق الذي جاء به القرآن الكريم وبذلك تميزت المعرفة عن العلم باعتبارها مبنية على علم سابق، و يتضح هذا في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة 146).
فهم لما كتموا الحق بعد علمهم به، لم تشر الآية إلى المعرفة، بل قرنت الكتمان بالعلم، مع أنها أشارت في بدايتها إلى أن علم بعضهم أصبح معرفة في حقيقة الأمر، لكن فريقا منهم توقفوا به في حدود العلم، لأنهم كتموه ولم يعترفوا به.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الفرق بين العلم والمعرفة، والذي يمكن استخراجه بالنظر لاستعمالاتهما في القرآن الكريم، واستنادا إلى ما جاء في بعض المعاجم اللغوية، قال ابن فارس عن العلم: «العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره».
وقال الراغب: «المعرفة والعرفان إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره وهو أخص من العلم، ويضاده الإنكار، ويقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله متعديا إلى مفعول واحد لما كان معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال الله يعلم كذا ولا يقال يعرف كذا، لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل به بتفكر، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته».
-وقال الفيومي في (المصباح المنير) عن المعرفة: «عَرَفْتُهُ «عِرْفَةً» بالكسر، و«عِرْفَانًا» علمته بحاسة من الحواسّ الخمس، و»المَعْرِفَةُ» اسم منه».
وقال عن العلم: «العلم : اليقين يقال «عَلِمَ» «يَعْلَمُ» إذا تيقن. وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه ضمن كلّ واحد معنى الآخر؛ لاشتراكهما في كون كلّ واحد مسبوقا بالجهل؛ لأن العلم وإنْ حصل عن كسب فذلك الكسب مسبوق بالجهل، وفي التنزيل: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ أي علموا، وقال تعالى: لا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمُ أي لا تعرفونهم الله يعرفهم ، وأطلقت المعرفة على الله تعالى؛ لأنها أحد العلمين، والفرق بينهما اصطلاحي؛ لاختلاف تعلقهما، وهو سبحانه وتعالى منزه عن سابقة الجهل وعن الاكتساب؛ [...] وإذا كان «عَلِمَ» بمعنى اليقين تعدّى إلى مفعولين. وإذا كان بمعنى عرف تعدى إلى مفعول واحد»
- وقال المصطفوي عن المعرفة في كتابه «التحقيق في كلمات القرآن» : «والتحقيق أن الأصل الواحد في المادة هو اطلاع على شيء وعلم بخصوصياته وآثاره، وهو أخص من العلم، فإن المعرفة تمييز الشيء عما سواه، وعلم بخصوصياته، فكل معرفة علم ولا عكس»
- يستنتج من التعاريف اللغوية السابقة بخصوص الفرق بين العلم والمعرفة في الاستعمال القرآني، أنهما وإن استعملا أحيانا بمعنى واحد، إلا أن المعرفة أخص من العلم، فكل معرفة علم وليس كل علم معرفة.
- من كلام الفيومي يستنتج أن المعرفة قد تكون بحاسة من الحواس الخمس.
ومما يشهد لهذا المعنى استعمالات الصحابة للفظ «عرفت في وجهه الكراهة»، وما روي عنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ»
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ.
- وجاءت المعرفة في مجموعة من الآيات الكريمة بمعنى التحقق من الشيء عن طريق ما يرى من علاماته الدالة عليه، ومن ذلك قوله سبحانه :
- لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (البقرة 272).
- وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ (الأعراف 46).
بناء على ما سبق، فإن المعرفة تشمل الأصلين اللغويين المذكورين في كتاب المقاييس وغيره من المعاجم اللغوية وهما: التتابع، ويتمثل في العلم بالشيء ثم تحققه بعد ذلك، والأصل الثاني: الاطمئنان إليه لسابق العلم به، قال ابن فارس عن الأصل الثاني: «والأصل الآخر المعَرِفة والعِرفان. تقول: عَرَف فلانٌ فلاناً عِرفاناً ومَعرِفة. وهذا أمر معروف. وهذا يدلُّ على ما قلناه من سُكونه إليه، لأنَّ مَن أنكر شيئاً توحَّشَ منه ونَبَا عنْه».
فالمعرفة تكون مسبوقة بعلم بالشيء أو بعلاماته، بينما علم الإنسان يكون مسبوقا بجهل، بدليل قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل 78)، وقوله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (الأنبياء 7).
-من السمات الدلالية للمعرفة أيضا اشتمالها على جانب وجداني، كما نجد ذلك في قوله سبحانه عن النصارى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة 83). ومن ذلك قيل العارف بالله، ولذلك فهي تنتج تجاوبا مع موضوع المعرفة، فهي بانية بالضرورة على عكس العلم الذي قد يكون منفصلا عن الدافعية والحركية، ومما يؤكد هذا المعنى استعمالات الحديث الشريف حيث روى الْحَارِث بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ : «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟» قَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ «فَقَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاظمَأَت نهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ : «يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ» , ثَلاثًا.
- ومن الأدلة على هذا المعنى في المعرفة أيضا، مصطلح المعروف الذي ورد في القرآن الكريم ثمانا وثلاثين مرة،كما احتل حيزا هاما في السنة النبوية باعتباره شيئا مطلوبا يجب الأمر به،إضافة إلى العرف الوارد في القرآن الكريم مرة واحدة هي قوله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين (الأعراف 199).
فههنا نقف على حقيقة مفادها أن تكرار الدعوة إلى الفعل المعروف والقول المعروف تعني الارتفاع بفكر المسلم متى ارتبط هذا الفكر بالعمل، إلى الدرجة التي تسمح له بنوع قدرة تشريعية، وذلك عندما يصير العرف أو المعروف مأمورا به لتعارف العقول السليمة عليه، مما قد يعني أن هذا المعروف يدخل ضمن دائرة المشترك الإنساني.
ويستنتج من ذلك أن الإسلام يتوافق مع الفطرة السليمة، وأن أوامره ونواهيه لا تتعارض في مجملها مع الفطرة التي فطر عليها الإنسان، مصداق ذلك قوله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم 30).
وكلمة المعروف غير كلمة المعلوم، فهي تعني التحرك بهذا العلم في سلوك الناس حتى يصبح مرئيا للعيان مقبولا عند الناس، ويصير ضده منكرا عندهم، ولذلك فالمعرفة، كا سبق، تنتج تجاوبا مع موضوعها، فهي بانية بالضرورة على عكس العلم الذي قد يكون منفصلا عن الدافعية والحركية، كما نقف على ذلك في عدة آيات كريمة من آيات ورود مصطلح العلم.
والله تعالى أعلم وأحكم.
دة . كلثومة دخوش