الألوهية والحياة والقيومية من أعظم أوصاف الله جل جلاله
هذه الآية المسماة بآية الكرسي، تعد من أهم المقاطع القرآنية التي عرف الله سبحانه وتعالى من خلالها بنفسه، فهي تجمع العلم الموصل لمعرفة الله عز وجل والمرتبط بخصائص ألوهيته.
وبالنظر إليها نجدها جمعت أصول الصفات الدالة على الله تعالى، من: الألوهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة. واشتملت على أسرار جمة، منها أن سبعة عشر موضعا ذُكر فيها اسم الله تعالى، وهو مناط الكلام، ظاهرا أحيانا ومستترا في أحايين أخرى. وسواء أظهر اسم الله أو استتر في هذه الآية فإنه الجليل المتميز بأشياء وخصائص ليست لغيره من الأسماء كارتباطه في كتاب الله بعظيم الأسماء وجليل الصفات والأفعال والأحوال، ويكفي لبيان عظمته وجلال شأنه أنه يُفتتح ويُختتم به في جميع أمور المسلمين وأفعالهم.
فإثبات الحياة لله تعالى فيه دليل على إبطالها وعدم استحقاقها لتلك الآلهة المزعومة للمشركين، يقول تعالىعلى لسان إبراهيم: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (مريم: 42)، وتترك المستحق للعبادة، من يسمع ويبصر ويوجد في كل مكان وزمان دون تَحيّز. فوصفه بالحياة يدل على كماله ووجوده وإحاطته بكل شيء.
وفي نفي السِّنَة والنوم عن الله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ، ما يرشد إلى كمال الحياة واستمرار الرعاية وتدبير شؤون الخلق والسهر الدائم على مراقبة ملكه الذي لا تحُده حدود ولا تُعرف له نهاية؛ لأن من تعتريه سِنَة أو نوم تلحقه الموت، وهذا مستحيل في حقه جل جلاله، فهو حي لا يموت.
وفي مِلكه لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ دليل على كثرة المملوكات وتنوعها واستغراقها لما يمكن أن يكون موجودا أو في حكمه؛ وهذه الملكية لكل شيء تستلزم وصفه بالقيوم أو القائم بأمر تلك المخلوقات اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء (الرعد: 16) و (الزمر: 62)، دون استثناء لأي خلق أو موجود حيثما كان أو هو كائن، وتستلزم أيضا وصفه بدوام الحياة. فمن جوده وكرمه على أولئك الخلق وعلى من يفردونه بالعبادة أنه يشفع لمن أراد أن يشفع له منهم؛ بخلاف من يعتقدون في الآلهة الناقصة الألوهية، والتي قال عنها المشركون بها: «هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» (يونس: 18) الذي تنحصر الشفاعة عنده لعلمه بمن يستحقها، أو يأذن لمن هو أهل لذلك كرسولنا محمد ؛ وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (الزمر: 3)، فنشعر أننا في كنف الله وفي رعايته وأننا من أهله، وفي هذه الآي ما يفيد أن الآلهة في مقام ثان عند من يعبدونها وأن التخلص منها آت حين يتحقق القرب من الله المستحق للعبادة الكاملة والحقيقية.
وفي قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ الذي هو تام، إشعار بأن من علم الله تعالى علوم اختص بمعرفتها والإحاطة بها، لا تدركها عقول خلقه، وأن إطلاعهم على بعض العلم مرتبط بمشيئته إِلا بِمَا شَاءَ ، وأن علمه المسبق بها وإدراكه لكنهها وحقيقتها يجعله يمن عليهم بما شاء منها.
وفي قوله سبحانه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ ما يدل على أحقية الله جل وعلا بتلك الأوصاف والخصائص السابقة وبغيرها، مما نسبه لنفسه وتفرد به لذاته، وأنه صاحب المُلك المستأثر بالتدبير والفعل لما يشاء كما يشاء لا ينازعه في ذلك منازع ولا شريك، لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد. فنسبة الكرسي إلى الله جل جلاله لم تُذكر في القرآن الكريم إلا في هذه الآية، وفي ذلك إشارة إلى العظمة والقوة والعلو وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الذي جمع العظمة كلها لوحده، كما جمع أعظم وأهم الأوصاف والخصائص التي لم تثبت لأحد من خلقه فسبحانه هو المنان، القادر على كل شيء. فمن هذه أوصافه كما وصف بها نفسه، هو قادر على أن يحفظ ملكه وما فيه من الخلق وأن يسهر على سيره كما شاء ووفق ما أراد وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا من كل ما يعيق أداءهما لوظيفتهما التي أنيطت بهما في هذا الملك الفسيح.
وفي الآية أسرار جمة وفضائل عظيمة، منها ما رواه النسائي عن أبي أمامة أن رسول الله قال: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن الموت» (1).
الآيات إذن نطقت وبما لا يدع مجالا للشك أنه سبحانه موجود متفرد في ألوهيته، حي واجب الوجود لذاته، موجد لغيره، منزه عن التحيز والحلول، مبرأ من التغير والفتور، لا مقارنة بينه وبين الآلهة المعبودة زورا وبهتانا من خالقيها والمعتقدين في أنها أحق بالعبادة، لأنه متعال وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير (سبأ: 23) عن الأشباه والأنداد والأمثال والأضداد، وعن أمارات النقص. فهو مالك الملك والملكوت، ومبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، العالم وحده بجلي الأشياء وخفيها وكُلِّيها وجزئيها، واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك، وهو القادر عليه، لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه، متعال عن كل ما لا يليق بجنابه، فهو عظيم قامت لذاته صفات وتفردت كتفرده سبحانه، ذو الجاه والملكوت، فهو المعبود من قِبَل خلقه، المشمولين عنده بالعناية وبالحفظ من الشرور والآثام، والمرعِيين بكامل رعايته، فسبحانه هو الكبير المتعال.
وخلاصة الكلام الصعب حصره في هذه الآي، أن اسم «الله» الذي افتتحت به هذه الآية يدل على العظمة والفخامة والجلال، ومجرد النطق به ينفي سلطان الشرعية عن عبادة غيره، ويثبت الحياة للمستمدين نورهم من نوره الذي لا يخبو، وحياتهم من إرادته، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام: 122) من الأعمال التي منطلقها الكفر بالله، وإشراك الغير معه في الألوهية، فهذا الفريق يعيش في ظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ، وإن ظن أنه على نور، نور زائف ليس كالنور الذي منطلقه الإيمان؛ ويقابل ذلك الفريق، فريق المؤمنين بأنه الله الواحد الأحد الفرد الصمد، المتنورون بنور الله، السائرون بضيائه وفي سبيله وسط غيرهم، إذ هم الأحياء وغيرهم في عداد الموتى، أحياء بالإيمان وبالنور الذي رزقوا من الله تعالى، دون سواهم من الخلق.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد وآله.
د.عبد القادر محجوبي *
باحث في الدراسات القرآنية
————–
1 – أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، حديث رقم: 100.