حمل إلي البريد ـــ هذا الأسبوع ــ رسالة من عالم أديب داعية من مصر، تحمل الخبر التالي:
«ذكرت صحيفة “بديل” المغربية عن مصدر مقرب من كواليس المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، أن حضور الفنان المصري عادل إمام كلف ما يقارب 500 مليون سنتيم. وأوضح المصدر للصحيفة، أن إقامة إمام في مراكش تعادل إقامة 30 فنانا مغربيا، مشيراً إلى أن “الزعيم” امتنع عن الخروج بأي تصريح صحفي دون تلقيه تعويضات مالية عن ذلك.
وعبر المغاربة على المواقع الاجتماعية، عن غضبهم و سخطهم، مستنكرين الطريقة التي يتم بها “تبذير” الملايين، في عز الأزمة التي تمر منها البلاد، خصوصا مع الخسائر البشرية والمادية التي خلفتها الفيضانات الأخيرة».
ثم سألني عن نسبة السنتيم إلى الدرهم. وهو في الحقيقة يريد أن يستنكر هذا التصرف السفيه من القائمين على المهرجان.
لقد استوقفني الخبر من وجوه، منها أن لقب (الزعيم) الذي صار يستقبل به عادل إمام، إنما هو مستمد من مسرحية له تحمل العنوان نفسه، وهي مسرحية أقل ما يقال فيها أنها منافية ــ شكلا ــ للذوق السليم، حتى وإن حاولت ـــ مضمونا ــ أن تعالج قضية من قضايا الفساد. فهي مسرحية فيها من البذاءة والانحراف ومظاهر الخلاعة ما يجعل الإنسان القويم يستحيي من مشاهدتها، وإن كان ظاهرها مغلفا بمحاربة الاستبداد والتسلط السياسي. ولكن ما قيمة المضمون إذا كان يساق في شكل مقزز يحجب الرؤية الجمالية، بل يدمرها؟ ولذلك قال بعض الظرفاء من أهل مصر: (نحن اليوم لسنا بحاجة إلى عادل إمام، بل إلى إمام عادل).
والوجه الثاني أن الناس ــ خارج الوطن ــ يتابعون ما يحدث في بلدنا العزيز، وينظرون كيف نعالج أزماتنا. وقد كانت الفيضانات الأخيرة وما خلفته من مآس وفواجع جديرة بأن توقظ أولي الألباب وذوي الضمائر، ليقفوا وقفة جدية وعملية لمساعدة المنكوبين من جهة، وقد أعلنت الدولة بعض تلك المناطق مناطق منكوبة، وليشاركوا المشاركة المادية والمعنوية في العمل على حلول عملية تجنب البلاد والعباد من كوارث مستقبيلة مشابهة من جهة أخرى، حيث لا تغني عبارات التضامن الشفوية، والله تعالى يقول: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة (التوبة:46).
والوجه الثالث هو في أن إقامة إمام في مراكش تعادل إقامة 30 فنانا مغربيا. فلم لا يلتفت إلى فنانينا المغاربة، وكثير منهم قدموا من الأعمال الجادة ما يستحق كل تكريم، وتكريمهم لا يكلف معشار ما كلفه تكريم «الزعيم»؟
فإن كان ولا بد من تكريم أشقائنا من البلاد العربية، فلم يتم التركيز دوما على الوجوه المستهلكة، وكثير من أعمالهم تناقض مقوماتنا، ويتغاضى عن فنانين مقتدرين يعانون الحصار في بلدانهم لأنهم ينتصرون دائما للجماهير وقيم شعوبهم؟ أين حسن يوسف، وعبد العزيز مخيون، وسناء جميل، وأحمد العربي، وغيرهم؟
تلك وجوه مما استوقفني في الخبر.
وقد ذكرني بخبر مماثل، حيث حضرتْ إلى مراكش منذ سنوات المغنية نانسي عجرم، وكلف حضورها ضعف المبلغ المذكور، أي مليار سنتيم.
لا يعنيني الآن فساد الذوق الفني الذي يمثله عادل إمام، والذي بدأ حياته بأدوار فنية بسيطة، كما يبدأ كل مبتدئ، ثم تحول إلى الكوميديا (البريئة) التي لا تهدف إلى أكثر من الترفيه عن الناس، وتلك مهمة لا غبار عليها، ليتحول بعد ذلك إلى الكوميديا المؤدلجة التي لا تهدف إلى النيل من بعض التنظيمات المحلية فحسب، وهو أمر لا شأن لنا به، ولكنها ترمي إلى النيل من كل القيم النبيلة التي ترمز إلى حضارتنا ومعتقداتنا، والانتصار لكل ما هو منحرف وبذيء. وقد ظهر ذلك في أفلام مثل (الإرهاب والكباب)، و(الإرهابي)، مرورا بمسرحية (الزعيم) التي وسمته بهذا اللقب الذي استقبل به في مهرجان مراكش، ولكن الذي يعنيني أساساً من كل هذا هو هذه المبالغ الطائلة الهائلة التي تصرف بغير وجه حق. ونحن لا ندري من هي الجهة التي يخول لها صرف كل هذه الأموال. وسواء أكانت مؤسسة رسمية أم مؤسسة حرة، فإن ذلك لا يخرجها من دائرة السفه، والله تعالى يقول: ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما (النساء:5). فأحق الناس بهذه الأموال الشعب المظلوم المحروم الذي يعاني الأمرين، وهو لا يجد لقمة العيش، ولا السكن اللائق بكرامته الإنسانية، فضلا عن حقه في التطبيب والتعليم وما إلى ذلك.
والسفه في اللغة هو الطيش، وقال الراغب في مفرداته: (واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية، فقيل سفه نفسَه)، وهو أيضا وضع الشيء في غير موضعه، ومنه التبذير، والله تعالى يقول: ولا تبذر تبذيرا (الإسراء:26)، ويقول سبحانه: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء:27).
وقد يضع الإنسان قنطارا في موضعه فلا يكون سفيها ولا مبذرا، وقد يضع درهما واحدا في غير موضعه فيكون من السفهاء والمبذرين. فكيف بمن يضع مئات الملايين في غير موضعها؟
فإن كانت تلك الأموال التي تنفق بغير وجه حق على غير مستحقيها من مؤسسة خاصة، فذلك هو السفه، وينبغي الحجر على السفهاء. وإن كانت من أموال الأمة، فإن المنفقين يجمعون إلى السفه الخيانة، فمن الذي خول لهم التصرف في أموال الشعب بغير حق؟ ولعل السفيه يكون متصرفا عن غير علم، فينبغي إرشاده إلى الحق، وتقديم النصح له بالحسنى. ومهما يكن فنحن نظن بهم خيرا وندعوهم إلى مراجعة مواقفهم، والتوبة إلى الله عز وجل مما هم فيه، فإنه ذنب عظيم وإن كانوا لا يعلمون.
يلتقطها د. حسن الأمراني