منذ أن بعث الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين والدعوة إلى الحق دائمة وقائمة، والصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر، ولكن لا بد للحق أن ينتصر مهما طال الزمان، ومهما كان الثمن.
وللحق أنصار في كل مكان وزمان، اختصهم الله تعالى برضاه، ومنحهم هداه، فعرفوا ربهم، وآمنو بما نزل على رسله وصدقوهم.
وإذا سلمت العقيدة سلم السلوك واستقام.
وللدعوة الحقة منهاج وسبيل، هو أسلوبها المستبين وصراطها المستقيم.
فأما المنهاج فقد وضحه القرآن الكريم في آية من سورة الشورى المكية، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (الشورى: 13).
وأما السبيل فقد جاء في آية أخرى من سورة النحل، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 125).
ولقد شاء الله تعالى أن يكون للحق أعداء يخشون انتصاره، ويخافون سلطانه فيضطربون لسماع صوته، أولئك هم أهل الترف الباغي والنفوذ الطاغي، والجاه الزائف، والقوة المستبدة، وهؤلاء قد احتفظ لهم التاريخ بالمساوئ من المكر والكيد والعناد، ولكن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، قال تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (الأنعام: 124). ولهذا حكم الله تعالى عن المجرمين المستكبرين بالذلة والصغار، وعل المبطلين المنصرفين عن الحق بالهوان والخسران، وعلى الظلمة تدور الدوائر قال تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُون (الأنعام: 125).
ولقد شاء الله تعالى أن يُبْتلى المصلحون بالمفسدين، الذين يصدون عن سبيل الله بغيا وحسدا من عند أنفسهم، إلا أن الصابرين المصلحين يتحملون ذلك بالصبر والثبات والاحتمال، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران: 186).
والصراع بين الحق والباطل قديم منذ أن وجد الإنسان على وجه الأرض حتى عصرنا الحاضر، وعداء الشر للخير سيظل باقيا ما دامت النفوس البشرية حية ، وشياطين الإنس والجن هم ميكروبات أو وقود الشر، ولقد حذرنا منهم رب العالمين، وأعلن أن الباطل هزيل لا يستطيع أمام الحق صبرا، وسيندحر في النهاية حتما. قال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (الإسراء:81). وقال تعالى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (الرعد: 19). وقال رسول الله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلم ).
ويوم خلق الله آدم ، وكرمه وجعل له زوجاً من نفسه يسكن إليها، ولحكمته البالغة اختبرهما بالنهي عن الأكل من شجرة معينة في الجنة، ولكن الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم كبراً وعناداً، وقف بالمرصاد يوسوس بالشر ويخدع بالفتنة يغري بهما آدم وزوجه حتى أكلا من الشجرة فأنزلا إلى الارض دار التكاليف والمنازعات والصراع، وأخرجا من الجنة بسبب خديعة الشيطان ونفسه الخبيثة التي عتت عن أمر ربها، فقادت الشر واحترفت الكيد لآدم وذريته، فقد ظل إبليس وجنده يعملون الخبائث ويحرصون على العصيان، وقد بين القرآن الكريم أن إبليس أقسم اليمين: لأغوينهم أجمعين ما عدا المخلصين اليقظين من ذرية آدم ، وحذرنا الله تعالى من الوقوع في كيد الشيطان كما وقع آدم وزوجه من قبل، فقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأعراف: 26).
إن نهاية إبليس وجنده ومن سلك طريقهم معلومة واضحة وهي اللعنة إلى يوم القيامة والمأوى جهنم وبئس المصير.
إن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، والحق مهما طال ركوده، لابد أن يعلو صوته وينتشر ضوؤه، والله تعالى لا يظلم مثقال ذرة وهو القائل سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون (هود:117). قال الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: «هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول». وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى: «إذا لم تستطع قول الحق فلا تصفق للباطل».
لما أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون قائلا له: اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه: 41-43)
وهذا هو الطريق الذي سلكه من بعده نبينا محمد ، دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والقول اللين، والله تعالى وعد أصحاب الحق أن يجعلهم أئمة في الأرض، ويجعلهم الوارثين المنتصرين. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون (القصص:4-5)
إن الله تعالى الذي قضى بقدرته على الفساد والطغيان والباطل والبغي والفسوق والعصيان في الأمم السابقة وحطم كبرياء فرعون وقارون وهامان، قادر سبحانه على القضاء بأمثالهم في زماننا هذا، قال تعالى : وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج: 38-39).
ذ. أحمد حسني