أولا- في سبب النزول :
هذه الآيات المباركات هي المقطع الأخير من سورة الحشر التي نزلت في حادث بني النضير –حي من أحياء اليهود- في السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب، هذه الآيات المباركات والآيات الثلاث التي قبلها رغم نزولها ضمن سورة مدنية إلا أنها تمتلك خصائص القرآن المكي شكلا ومضمونا. وهذا المقطع الخاتم لسورة الحشر يتناسق مع بدايتها في الحث على تسبيح الله انسجاما مع فعل كل الكائنات في السماوات والأرض، ودعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله العزيز الحكيم لشؤونه مع أعدائه وأوليائه وعجيب أمره في ذلك.
ثانيا- نظرات في دلالات ومعاني هذه الآيات :
يبتدئ هذا المقطع ببيان عظمة القرآن الكريم، وعلو قدره ومدى قوة تأثيره على الصخر الجامد لو تنزل عليه {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} قال الحافظ بن كثير: «فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه».
حقا إنه كلام الله تعالى وروح من أمره عز وجل يفعل في الكيان البشري في بعض لحظات إشراقه وانفتاحه لتلقي حقائقه فعل المغناطيس والكهرباء في الأجسام المادية أو أشد. فها هو عمر بن الخطاب ] يفقد سيطرته على جسده ولم يعد يقوى على حمل نفسه فارتكن إلى جدار حين سمع قارئا يقرأ: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع} فلما عاد إلى بيته مكث فيه شهرا يعوده الناس مما حدث له.
وصدق الله العظيم حين قال: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} قال ابن كثير: أياكان هذا القرآن، وقد قال تعالى : {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله}.
إنها الأمثال التي تهز النفوس وتوقظ القلوب وتبني العقول للتأمل والتفكر. {وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}.
ثم بعد هذا الكلام عن ثقل القرآن وسلطانه وتأثيره المزلزل على النفوس البشرية والكائنات المادية الجامدة حين يتم تلقيه بحقيقته تأتي هذه التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى كأنها الثمرة المقصودة من تفاعل كيان الوجود بما فيه من كائنات على رأسها ابن آدم الذي ينبغي أن يلهج لسانه بهذه الأسماء صباح مساء. يبصر بقلبه معانيها وحقائقها ويعيها جيدا لتستجيب جوارحه بعد ذلك تلقائيا لمقتضياتها في خضوع واستسلام وإجلال لمن له هذه الصفات خالق هذا الكون العظيم ومنزل هذا القرآن العظيم.
إنه : {هو الله الذي لاإله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم} فلا إله ولا رب لهذا الكون سواه سبحانه ولا معبود بحق فيه غيره. وكل ما يعبد من دونه فباطل، لأنه هو وحده {عالم الغيب والشهادة} لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . وحين تترسخ هذه الحقيقة في قلب العبد لا شك أنه سيجتهد في أن يصلح سريرته وعلانيته ويستقيم في أعماله وتصرفاته، في خلوة كان أو جلوة، ما دام يشعر أنه على مرأى ومسمع من ربه وسيده ومولاه، وما دام يدرك أن خالقه يعلم عنه ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل وريده.
وقوله تعالى: {هو الرحمان الرحيم}تشعر العبد بنوع من الأمن و الطمأنينة وتنزع من قلبه الفزع واليأس والقنوط. فتتوازن شخصيته بتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة، والرغبة والرهبة «فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم، ولا يريد الشر بهم بل يحب لهم الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء» فهو سبحانه ذو رحمة واسعة شاملة لجميع المخلوقات فبالأحرى لعباده المِؤمنين. وهو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها. وهو القائل: {ورحمتي وسعت كل شيء}.
والقائل : {كتب ربكم على نفسه الرحمة}
{هو الله الذي لا إله إلا هو} هي عبارة تتكرر كأنها الأساس والقاعدة التي تبنى عليها باقي الأسماء والصفات. «الملك» أي المالك لكل الكائنات بما فيها بني آدم. فهو سيدهم الواحد؛ إليه يتجهون ويخدمون ويطيعون، وإليه وحده يتجهون باحتياجاتهم ورغباتهم.
{القدوس السلام المومن…} فهذه أسماء أخرى من أسمائه الحسنى كل منها له دلالاته وأثره. إذا القدوس يحمل دلالات القداسة المطلقة والطهارة المطلقة التي يشع نورها على القلب فينطق ويطهر. والسلام اسم يحمل دلالات السلم والأمن والطمأنينة ويشيع ذلك في قلب المؤمن وفي جنبات الوجود من حوله. والمؤمن لفظ يفيد أنه سبحانه وتعالى واهب الأمن والايمان ويشعر قلب عبده بقيمتهما.
{المؤمن العزيز الجبار المتكبر} فهذه أسماء لها خصوصيتها فالمهيمن تحمل دلالات السلطان والرقابة وتوحي ببسط النفوذ والسيطرة على كل شيء ومثلها {العزيز الجبار المتكبر} فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء، فلا عزيز إلا هو ولا جبار إلا هو ولا متكبر إلا هو. وما يشاركه أحد في صفاته هذه، وما يتصف بها سواه فهو المتفرد بها بلا شريك.
حين يقرأ العبد المؤمن هذه الأسماء متتالية مستشعرا قيمتها وقوتها ومعانيها لا شك يهتف لسانه وقلبه معا وبتلقائية عجيبة بهذه العبارة التي تختم الآية والمتضمنة لكل معاني تنزيه الله عما ينسب إليه أهل الزيغ والضلال من كل أنواع الشرك والشركاء,{سبحان الله عما يشركون}.
ثم بعدها تستمر التسبيحات المديدة لتأكيد ألوهيته سبحانه وتعالى إذ {هو الله} فلا إله غيره لأنه وحده {الخالق البارئ المصور}. فلفظ الخالق يحمل دلالة التصميم والتقدير، والبارئ تحمل دلالة التنفيذ والإخراج، والمصور يتضمن كل شيء وتكسبه شخصيته المتفردة. ف{له الأسماء الحسنى} فهي الحسنى في ذاتها، غنية عن كل استحسان من الخلق وبها {يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء، ويشارك فيه الأشياء والأحياء كما يتلاقى فيه المطلع والختام. في تناسق والتئام.
عن أبي هريرة ] عن رسول الله [ : «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر».
ثالثا- خلاصات ومستفادات :
مما سبق يمكن استخلاص مستفادات منها:
< تعظيم القرآن الكريم والإقبال عليه تعلما وتعليما.
< القراءة المتدبرة الخاشعة للقرآن تورث خشية الله وتدعو إلى التفكر.
< وجوب التعرف على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
< وحدانية الله سبحانه في ألوهيته أساس أسمائه الحسنى وصفاته.
< علم الله محيط بكل شيء فاستحي أن يراك فيما يكره.
< اجتهد في أن يكون لك حظ من صفاته «الرحمن الرحيم» «فالراحمون يرحمهم الرحمن».
- أنت عبد مملوك لله وحده الملك الحق فالزم حدود عبوديتك له.
< اجتهد في إصلاح باطنك وظاهرك وتطهير قلبك وجوارحك واجعل من كيانك كله مرآة تعكس أنوار «القدوس السلام المومن» تسطع على من حولك ومحيطك القريب والبعيد.
< حذاري من الاستطالة والتعالي على الخلق و منازعة الله جل وعلا في سلطانه وعزه وجبروته وكبريائه «وما هو خاص به سبحانه لا ينبغي تقليده فيه: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته»(حديث قدسي رواه مسلم 4-2023)
< لله الأسماء الحسنى فاجتهد أن تحصيها بمقتضياتها تكن من أهل الجنة
< الكون كله يسبح لله فلا تكن أيها العبد نشازا في نظامه.
هذه بعض المستفدات من هذه الآيات المباركات، خواتم سورة الحشر، وهذا غيض من فيض كما يقال، ونقط من بحار فيوضات كلمات الله جل جلاله، وقبسات من أشعة شموسها التي لا حد لها ولا حصر، فتناولها بقوة وعزم، وجدد قراءة الآيات بنفسك وتدبر وأبصر لعلك تهتدي إلى أبعد من ذلك., واصدق الله يصدقك.
والله ولي التوفيق
ذ. محمد محتريم