الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الدنيا دارا للعمل والكسب، وجعل الآخرة دارا للجزاء على الشر بالعقاب وعلى الخير بالثواب طبقا لقول الحق جل وعلا {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى}(النجم: 39-41). سبحانه من حكيم خبير أودع في الإنسان ما يعينه على سبل الهداية والرشاد، وتفضل عليه فخلق له ما في الأرض جميعا، أحمده وهو الأحق وحده بجميع المحامد كلها، وأشكره شكرا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننال بها سعادة الدنيا والآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقدوتنا في جميع الأمور محمدا عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الحق، وهدى الناس إلى الصراط المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من اقتدى بهديه وتأدب بآدابه (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) (الإنسان: 22).
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إننا إذا أردنا أن نعرف أهم المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا لأدركنا أن مشكلة الفقر والتسول لها أثرها البالغ على سلامة المظهر العام لجسد المجتمع والأمة،خاصة إذا كثر عدد الفقراء والمتسولين وتنوعت أصنافهم ذكورا وإناثا صغارا وكبارا، مسلمون وأجانب، بيض وسود، ولهذه المشكلة أيضا أثرها على نفوس الخيرين ممن يريدون مد يد المساعدة والتصدق تطوعا أو فرضا حيث لا يميزون بين المستحق للصدقة وبين من لا يستحقها، ودعا كثير ممن يروم الصلاح والإصلاح إلى ضرورة العلاج والقضاء على ظاهرة الفقر والتسول، وظن البعض أن الزكاة تعين على كثرة السائلين والمتسولين الشحاذين المحترفين لأنها تعطى لكل سائل وتوزع على كل مستجد، الشيء الذي يجعلنا نضع السؤال ونقول: ما موقف الإسلام من الفقر والتسول؟ وما مدى مساهمة فريضة الزكاة في الحد منه؟
أيها المسلمون: إن نظرة الإسلام الأصيلة تغرس وتزرع في نفوس المسلمين كراهية السؤال تربية لهم على علو الهمة وعزة النفس والترفع عن الدنايا والتذلل للخلق، فعن سهل بن الحنظلية أن رسول الله [ قال: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم»، قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «ما يغذيه أو يعشيه»(رواه أحمد في مسنده (17662)، وابن حبان (3394)). وعن ثوبان مولى رسول الله [ قال: قال رسول الله [ : (من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة؟) فقال ثوبان أنا يا رسول الله، فقال (لا تسئل الناس شيئا)، فكان لا يسأل أحدا شيئا.(رواه أبو داوود (994)).
فانظر أخي المسلم إلى علو همة هذا الصحابي الجليل الذي آثر العيش بكد يديه وعمله الصالح بدل التعرض للناس في الطرقات وأبواب المساجد وغيرها، فكن مثله لتضمن لنفسك عزتها وكرامتها وتضمن بعد ذلك الجنة من رسول الله [ جزاء لعملك وسعيك في العيش بكد يديك. ولقد صور النبي [ اليد الآخذة بالسفلى، واليد المتعففة أو المعطية بالعليا، وعلّم صحابته الكرام رضوان الله عليهم أن يُروِّضوا أنفسهم على الاستعفاف والاستغناء عن الغير ليغنيهم الله سبحانه وتعالى من فضله، فعن أبي سعيد الخدري أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله [ فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما عنده قال : «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يُعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أُعْطِيَ أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر»(رواه مسلم 1053).
وعَلَّمَ الرسول [ المسلمين أيضا أن العمل هو أساس الكسب، وأنه على المسلم أن يمشي في مناكب الأرض ويبتغي من فضل الله، وأن العمل أفضل من تكفف الناس وإراقة ماء الوجه بالسؤال، قال رسول الله [ : «لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»(رواه البخاري 1402)، ونهى الرسول [ المسلمين أن يُعرّضوا أنفسهم للهوان والمذلة بالسؤال إلا لحاجة تدفعهم وتقهرهم فإن سألوا وعندهم ما يغنيهم كانت مسألتهم خموشا (علامة) في وجوههم يوم القيامة، يقول رسول الله [ : «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جَمْرا فليستقِلَّ منه أو ليستكثر»(رواه مسلم 1041)، وابن ماجة (1838). وقال [ : «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة أو اللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ به فَيُتصدَّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» (رواه البخاري 1409) ومسلم بمعناه 1039)، كما قال [ : «ليس الغِنى عن كَثْرَة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس».
أيها المسلمون : هذه هي مبادئ التربية في الإسلام لأبنائه وأتباعه على القناعة وغنى النفس والسعي في العمل، وهذه هي توجيهات الإسلام وإرشاداته للمسلمين للتعفف والاستغناء عن الناس، ولكن هل يكفي الإرشاد النظري والتوجيه الخلقي والتربية النفسية للقضاء على ظاهرة الفقر والتسول؟ وقد قيل : صَوْتُ المعدة أقوى من نداء الضمير؟ والجواب فيما سيأتي. نسأل الله تعالى أن يكفي ويعم العامة والخاصة بفضله وجوده وكرمه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، و لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على كمال فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه سبحانه وتعالى تعظيما لشأنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نبلغ بها رضوانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولوا الفضل والنهى وعلى كل من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
عباد الله : إن الإرشاد النظري والتوجيه الخلقي لا بد أن يصحبهما علاج عملي للسائلين والفقراء الذين سينالون عن حاجة ملحة وضرورة قاهرة، والعلاج العملي يتمثل في أمرين أساسيين : أولهما تهيئة العمل المناسب لكل عاطل ما توفرت أسباب العمل – ولا أقصد بتهيئة العمل الحصول على وظيفة بالضرورة في سلك من أسلاك الدولة، وإنما المراد أي عمل شريف، سواء كان صناعة أو تجارة، أو غير ذلك من المشاريع حتى لا يتعود السائل على أحوال الصدقات بصفة دائمة، ويتشجع على البطالة ويزاحم الضعفاء والعاجزين في حقوقهم، فعن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي [ يسأله فقال : «أما في بيتك شيء؟» قال : بلى حلس -كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت- نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقُعْبٌ -يعني إناء- نشرب فيه الماء، قال : «ائتني بهما» فأتاه بهما فأخذهما رسول الله [ وقال : «من يشتري هذين؟» قال رجل :أنا آخذهما بدرهم، قال : «من يزيد عن درهم؟» مرتين أو ثلاث، قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال : «اشتر بأحدهما طعاما وانبذه إلى أهلك.. واشتر بالآخر قدوما فأتني به…» فشدَّ رسول الله [ عودا بيده ثم قال له : «اذهب واحتطب وبع ولا أرينَّك خمسة عشر يوما»، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، قال رسول الله [: «هذا خير لك من أن تجيء المسألةُ نكتة في وجهك يوم القيامة» (رواه أبو داود 1641)، وابن ماجة 2198).
وفي هذا الحديث نجد النبي [ لم يُرِدْ للأنصاري السائل الفقير أن يأخذ من الزكاة وهو قادر على الكسب والعمل، ولا يجوز له ذلك إلا إذا ضاقت أمامه المسالك وانسدت في وجهه كل السبل والوسائل بعد الأخذ بأسباب العمل.
ودور الزكاة هنا لا يخفى، فمن أموالها يمكن إعطاء القادر العاطل ما يمكنه من العمل في حرفته من أدوات أو رأس مال.
والأمر الثاني لعلاج مشكلة الفقر والتسول ضمان المعيشة الملائمة لكل عاجز عن اكتساب ما يكفيه، وعجزه لضعف جسماني يحول بينه وبين الكسب أو لنقص بعض الحواس أو بعض الأعضاء أو الأمراض المعجزة أو اليتم… فهذا يعطي من الزكاة ما يغنيه، على أن عصرنا هذا قد استطاع البعض فيه أن يسير بواسطة العلم لبعض ذوي العاهات كالمكفوفين وغيرهم من الحرف ما يليق بهم، ولا بأس في الإنفاق عليهم من مال الزكاة، وقد يكون العجز عن الكسب هو انسداد أبواب العمل الحلال في وجه القادرين رغم طلبهم له وسعيهم وراءه…. فهؤلاء في حكم العاجزين عجزا جسمانيا مُقْعِدا. هذا وإن من مقاصد الزكاة البعيدة الأمد هو اجتثاث الفقر والسؤال في مجتمعات المسلمين.
أيها المؤمنون : اتضح مما سبق بيانه لنا أن الزكاة صدقة لا تعطى لكل سائل، وتوزع على كل مستجْد، ولا تعين على كثرة السائلين… بل هي وسيلة من أحسن وأنجع الوسائل في القضاء على الفقر وعلى التسول لو فهمناها كما شرعها لنا ربنا سبحانه وتعالى وبينها لنا رسوله [ من خلال أحاديثه وسنته الشريفة المطهرة.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الفهم وحسن العمل ويوفقنا لما يحبه ويرضاه حتى نلقاه وهو راض عنا متقبِّل منا أعمالنا آمين. اللهم يا من خزائنه لا يعتريها نفاذ، ويا من نعمه تجل عن الحصر والتعداد، ويا من يجيب المضطر إذا دعاه نسألك أن تديم علينا نعمك الظاهرة والباطنة، ونسألك أن تكفي الفقراء من خلقك وأن تكف المتسولين من عبادك عن السؤال وتعمهم بفضلك وإحسانك. واستر اللهم بحلمك عيوبنا، واجبر كسر قلوبنا. آمين
ذ. عبد اللطيف احميد الوغلاني