يعلم الناس ما يخلفه سونامي الطبيعة على وجه الأرض من آثار مدمرة وتغيير رهيب، ينشر الهلع في نفوس سكان الرقعة التي يطولها ذلك المد العاتي، بسبب ما يحدثه من اقتلاع لمعالم الحياة، واجتثاث لأسباب الأمن المادي والمعيشي التي تسمح باستمرار الحضارة واستتباب عوامل التطلع إلى الأفضل، فلا عاصم من أمر الله إلا من رحم، فالمساكن التي كانت تؤوي نفوسا آمنة تتطلع إلى المستقبل، وتشيد أبراجا من الأمل في جني مزيد من مكاسب الحياة الدنيا، أو تلتمس أسبابا للنجاة في الدار الآخرة، تنهار على رؤوس أصحابها في لحظة خاطفة من ليل أو نهار، فتنهار معها الطموحات والأحلام، وتذوب وتتلاشى كأن لم تكن قائمة في يوم من الأيام، فلا خطط ولا مشاريع، ولا طبقات اجتماعية بعضها فوق بعض، ولا تبختر ولا خيلاء، ولا قصور ولا أكواخ، ولا تبرج ولا زينة، ولا غطرسة على الفقراء من الأغنياء، بل إنه الأنين والاحتضار والموت الزؤام، يلف بجلابيبه السوداء الصغار والكبار، والرجال والنساء، وإنها المزع والأشلاء تجرفها عاتيات الأمواج إلى كهوف العدم المظلمة السوداء، حيث ينكشف الغطاء.
إن ما يدركه العقلاء إزاء هذا السونامي الذي يجتاح مناطق من أرض الله جل جلاله التي تعتبر نقطة ضئيلة في بحر الوجود الكوني الذي يدبره سبحانه بواسع رحمته وبالغ حكمته، أنه من أمر الله جل جلاله وعز سلطانه، الذي لا يملك العبيد إزاءه إلا التسليم والإذعان، فهو مالك الملك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا معقب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده. والعبرة في هذا الدين القيم دين الإسلام بمآلات الأمور، فمن يتوفاهم الله عز وجل تحت أمواج السونامي المدمرة العاتية على الإيمان، يؤوبون إلى رحمة من الله ورضوان، بينما الكفرة الظالمون يبوؤون بغضب منه وخسران.
فالسونامي الطبيعي مهما يكن من الجسامة والهول، يعقبه ترميم للحياة، وتجديد لنسيجها، بعد انحسار المد وهدأة الإعصار، وقد يتبدل وجه الحياة إلى تألق وازدهار، بفعل التدبر والاعتبار.
أما السونامي الأخلاقي، أي الذي يجتاح الأخلاق فينسفها نسفا ويتلفها أيما إتلاف، فإنه يكتسي طابعا أكثر مأساوية، لأنه يحدث بفعل شرود الإنسان عن نهج الله وعناده وعصيانه، وتكبره وصلفه وغروره، فيكون مصيره الألم والعذاب الذي يسحق الأفراد والجماعات، ويأتي على الأخضر واليابس، ويتجرع مرارته الصغير والكبير، والغني والفقير، والرجل والمرأة، ولا يسلم منه شيء في بر الله وبحره، مصداقا لقول الله جلت قدرته: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (الروم: 41).
وإن المتأمل في هذا السونامي الأخلاقي ليدرك حق الإدراك الاختلاف الواضح بينه وبين السونامي الذي يجتاح الطبيعة، فينما هذا الأخير يأتي بغتة وتتجدد بعده الحياة رغم الآلام والجراح، ويمتص الناس صدمته بالصبر والاحتساب والتسليم، والأمل في عفو الله سبحانه وتعالى، والتطلع للتوبة وتجديد العهد مع الله العلي القدير، فإن الأول يمسك بمفاصل المجتمع وتلتف بكيانه كما تلتف الأفعى القاتلة بجسم إنسان، فلا تدعه إلا وقد خنقت أنفاسه، وجمدت دمه وأطرافه.
وإن هذا التسونامي الرهيب ليتميز بالديمومة النسبية والاستمرار أمدا من الزمن، يجأر فيه الناس تحت سياط العذاب المادي والنفسي، ويكتوون فيه بلفحات نيران غلظة المتسلطين من الطغاة والمفسدين والمستكبرين، ويصرخون ملء حناجرهم ولا مجيب، فيزداد ألمهم وتتضاعف مشاعر الغبن والإحباط في حلوقهم.
إن هذا السونامي يستمد سوناميته العاتية من كونه قد أتى على الأخضر واليابس من طبائع الإنسان وخصائصه، فلم يدع ملمحا من ملامح الفطرة إلا غيره، ولا استعدادا من استعدادات الخير إلا طمسه. مسخرا في ذلك كل نزعات الشر وصولة الأهواء، ونزغات الشيطان ووساوسه وإغواءه. منتهزا كل ما أنتجه ذكاء الإنسان الشقي من وسائل وأدوات في تزيين الغواية والعصيان والطغيان.
لقد أتى تسونامي الأخلاق على الدين فجعله تفاريق وأشتاتا، كل حزب بما لديهم فرحون (الروم: 32)، وأتى على الأنفس فمزقها إربا إربا، فسالت الدماء المغدورة شعابا ووديانا، وأتى على الأعراض فمرغها في المهانة والابتذال، وأمعن في انتهاكها أيما انتهاك.
وافترس تسونامي براءة الأطفال في صفائها ونضارتها وكسر عظامها الفتية الطرية، فسحت الأمهات المغدورات الدموع المريرة شلالات وأنهارا.
ومن فرط تطاول السونامي الأخلاقي وتبجحه وإطلاق مخالبه لتنهش الغيورين والمخلصين من حماة القيم والفضائل، بات هؤلاء الشرفاء في هم ونكد، ووجدوا مرارة الغبن والذل في حلوقهم واستشعرتها أعماق أرواحهم.
إنه لا حيلة ولا خلاص من هذا السونامي المريع، إلا بركوب سفينة نوح والعض بالنواجذ على حبل النجاة، حبل الله المتين، قرآنه الكريم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والسعي وسط الأعاصير، إلى صنع قوارب النجاة ، بتكثير الخير وتعميم قيم الصلاح، استرشادا بقوله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (الأنفال: 25).