تُعنى هذه الزاوية بجمع ما تناثر من نصوص الإعجاز القرآني في غير مصادره المتخصصة، وما تناثر في هذه المصادر لكن لغير مؤلفيها، كما تُعنى بتصنيفها حسب تاريخ وفاة أصحابها، وذلك خدمة لمكتبة هذا العلم، وفتحا لآفاق جديدة للبحث فيه، ومحاولة لإقامة (الموسوعة التاريخية لنصوص الإعجاز القرآني في التراث العربي).
(تمة نصوص أبي منصور الماتريدي (ت333هـ))
(11)
ثمَّ طعن الوراقُ المحتجَّ بِالقرآن بأوجه:
أَحدهَا: تفاوتهم في البلاغة، وَلَعَلَّه تأليف أبلغهم.
وَالثَّانِي: أَن الحروب مَعَه شغلتهم عَن إتيان مثله.
وَالثَّالِث: أَنه لم يَكُونُوا أهلَ نظر وَمَعْرِفَة، أَلا ترى أَنهم صدوا عَن الإِقْرَار مع توفر أَسبَابه عِنْد أَصْحَاب الضَّرُورَة، وَعَن النّظر والمعرفة مع أَسبَاب ذلك عِنْد أَصْحَاب الاكتساب.
وَالرَّابِع: خُصُوص وَاحِد بِقُوَّةٍ مِن بَيْن الجَمِيع مِن غير أَن يُوجب ذلك له شَيْئا، فَمثله النُّبُوَّة، أَو أَن يكون قدرتهم كانت بالفكر والتخيير، فَلم يتكلفوا ذلك.
فَأَما الأول فَإِنَّهُ لَو كان مَا قَال يمتنعون عَن ذلك بعد الجهد، فَدلَّ تَركهم دونه أَنهم تَرَكُوهُ طباعا.
وأيضا أَنه لَو كان كَذلك لم يحْتَمل مثله مِمَّن يَقُول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾(الإسراء: 88) الآية، أَن يكون أحد من البشر يبلغ علمُه بِاللِّسَانِ ذلك.
وَالثَّالِث أَنه إذ نَشأ بَينهم، ومِن عِنْدهم عرف اللِّسَان، فلولا أَن له في ذلك من الله خُصُوصا لم يكن لغيره لا يحْتَمل أَن يصير بِهذا المحل.
وَالرَّابِع قد تكلفوا المجاوبات لأقوام معروفين في فنّ حَتَّى اجتهدوا في قصيدة حولا، فَلَو كان يحْتَمل وسعهم أَو يرجون البلُوغ بطرق مَا احْتمل تَركهم، وَفِي ذلك تَشْنِيع على القَوْم، وَقد بذلوا مهجهم ودنياهم في إطفاء هذا النُّور.
والفصل الثَّانِي لا يحْتَمل الذي ذكر لما بذلك غنى لَهُم عَن بذل المهج، وَلما أُمهلوا قَرِيبا من عشْرين سنة قبل الحروب، وَلما فِيهِ تقريع الجِنّ وَالْإِنْس، وَإِنَّمَا حَارب قوم.
وَبعد، فَإِن المُحَاربَة لم تمنعهم من مجاوبات بما سمعُوا من رَسُول الله، فكَذلك الإتيان بمثل القرآن، لَو احْتمل وسعهم.
وَالثَّالِث لو كان كَذلك لاستقبلوه بالأذكار وَالرَّفْع ([1]) كَفعل بالْعرف لا بالخضوع والامتناع. على أَن العَرَب أذكى النَّاس عقلا وأشدهم حمية، وَقد قَابلُوا الشُّعَرَاء بالأشعار أَيْضا.
وبعد، فإِن التقريع كان به جَمِيع البشر والْجِنّ، وَقد انْتَشَر أمره وَظهر في الآفَاق.
وأيضا، فَإِن الذي حمله على ذلك بمَا جَاءَ به نَشوؤه بَينهم، وَإِن كان له معرفَة وَنظر مع نشوئه بَينهم، فَذلك أَيْضا آية لَهُ. وَلا قُوَّة إِلا بالله.
وَجَوَاب الرَّابِع أَن الله تعالى إِذا خص أحدا بِقُوَّة لا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد يمنعهُ عَن دَعْوَى النُّبُوَّة بِاللَّفْظ، كَمَا منع من يظفر بِحجر المغناطيس، وَلَو علم أَنه يدّعي لا يُعْطِيهِ. وَالثَّانِي أَن لا أحد في شَيْء له فضل قُوَّة إِلا طمع غَيره استتمام ذلك أَو عمَل ذلك النَّوْع بِقدر قوته، وَالدَّلِيل مَا يخرج عن الطباع.
وَبعد، فَإِنَّهُ لَو كان له في ذلك فضل قُوَّة بهَا عمل لَكان لا يتَمَكَّن نيلها بهم، ولَيْسَت لَهُم؛ إذ لا يُوجد مثل ذَا في شَيْء من الأُمُور، دلّ أَن الله جعله فِيهِ ليَكُون آيَة لقَوْله…
وقوله: (على البديهة)، فقد أُمهلوا؛ مع مَا لم يحْتَمل أَن يكون من البشر أحد يعلم بِفضل القُوَّة مَا تُسْأَل عَنهُ. وَقد تكلفوا الأَشْعَار، ثمَّ نصْب الحروب، وَجمْع الأعوان، وبذْل الأَعْيَان، ثمَّ اقتتال الأقران، والمبادرات الفظيعة، فَلَو كان وسْعهم يَحْتَمل القيام بذلك لكان أيْسرَ عليهم. ثمَّ قد دُعوا إلى إتْيَان السُّورَة نَحْو ثَلاث آيَات، لَو احتملها وُسْع البشر لكان سَاعَة من النَّهَار كَافِيَة لذلك…
قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله: احتج ابن الراوندي بِما تقدم من الأغذية والسموم في إِثْبَات الرسَالَة، ثمَّ قَال: لا يَخْلُو الأَمر في الخَبَر إِمَّا أن لا يثبت البَتَّةَ، فَيجب الجَهْل بالْأَيَّامِ المَاضِيَة والأماكن النائية والوقائع السالفة، أَو نقبل التَّوَاتُر وَمَا يُضْطَر إليها فجب به أخْبَار الرُّسُل. وَلا قُوَّة إلا بالله.
ثمَّ نذْكر جمل مَا يبين فَسَاد طعنه من وُجُوه الحجَج بِالقرآن؛ إذ هي من وُجُوه:
أَحدهَا: بنظمه من غير أَن كان فِيهِ غَرِيب مُبْتَدَع يخرج ذلك عَن عرف العَرَب؛ بل هو بأعذب لفظ وأملح نظم، وَقد احتملت العَرَب المُؤَن الَّتِي هَلَكُوا فِيهَا، وَلا يُحْتَمل ترْك الأَمر اليَسِير مع التحدي والتقريع، مع سَلامَة أَحَبّ الأَشْيَاء إِلَيْهِم وَهِي الحَيَاة، وتُبذل المُهَج مع ضنِّهم بهَا إِلّا عَن عجْز ظهَر لَهُم مِن أنفسهم طباعا أَو امتحانا.
وَالثَّانِي: بَيَان جَمِيع الأُمُور الَّتِي بهَا عِلْم علماء أهل الكتاب، مع العِلم بِمن شهِد رَسُول الله أَنه لم يكن اخْتلف إِلَيْهِم، وَلا كان يخط كتابا بِيَمِينِه فَيحْتَمل استعادته، ثَبت أَن ذلك كان بتعليم الله تعالى إِيَّاه.
وَالثَّالِث: الإِخْبَار بِمَا يكون له من الفتُوح، ودخُول الخلق في دينه أَفْوَاجًا، وَإِظْهَار دينه على الأَدْيَان في وَقت ضعْفه، وَقلة أعوانه، وَكَثْرَة أعدائه، فكان على مَا أخبرهُ القرآن. وَبالله التَّوْفِيق.
وَالرَّابِع: أَن الله تعالى جمع في القرآن أصُول جَمِيع النَّوَازِل الَّتِي تكون إلى يَوْم القِيَامَة، دلّ أَنه عن عَالم الغَيْب جاء حَتَّى أعْلمَهُ أصُولَ ذلك.
وأيضا مَا أظهر من مُوَافقَة القرآنِ سَائِرَ كتب الله، وَبَيَان نعْت مُحَمَّد وَأمته كَقَوْلِه: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ﴾(الأعراف: 157) وقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾(الفتح: 29) وقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾(البقرة: 146) من غير اجتراء أحد مِنْهُم على إِنْكَار ذلك وَدفعه، ثَبت أَن الذي أنزل هَذِه الكتبَ هو الله سبحانه، فَجَعلهَا كلهَا متفقة على اخْتِلاف الأَزْمِنَة وتباعد الأَوْقَات؛ ليعلموا أَن القرآن مِن عِنْد مَن جَاءَ مِنْهُ الكتب، وأَن الذي جَاءَ مِنْهُ الكتب قديم، لم يزل ولا يزال حجَّته في الأَوَّلين والآخرين وَاحِدًا.
وأيضا مَا سبَق مِن ذِكر المباهلة، وَمَا كان مِن الأَخْبَار أَنه يسْأَل عَن كَذَا ويُستفتى عَن كَذَا، فكان على مَا ذكر.
على مَا في القرآن من قصَّة الجِنّ وتصديقهم وشهادتهم له بموافقة الكتب. وَبالله العِصْمَة.
وَالأَصْل في هذا أَن رَسُول الله بُعث في عصر لم يُعرف فِيهِ التَّوْحِيد؛ بل كان عُباد الأَوْثَان والأصنام والنيران. فَجمْع مَا أنزل عليه من القرآن هو من أنجح مَا لَو اجْتمع موحدو العَالم، مَن مضى مِنْهُم وَمن يكون أبدا، على إِظْهَار أدلته مَا احتملت بُلُوغ عُشرهَا، فضلا عَن الإِحَاطَة في ذلك الزَّمَان الذي لا يُقدر على موحّد وَاحِد. وَلا قُوَّة إِلا بالله.
وأيضا، إن القرآن أُنزل في عشْرين سنة فَصَاعِدا بالتفاريق؛ مَا خرج كُله على وزن وَاحِد مِن النّظم، وعَلى مُوَافقَة بعضه بَعْضًا، مِمَّا لَو احْتمل كَوْن مِثله عَن الخلق لم يمْتَنع من الخلق من الاختلاف في شَيْء من ذلك، دلّ أَنه نزل من عِنْد علام الغيوب. وَلا قُوَّة إِلا بالله…
وَطعن في قَوْله: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب﴾(العنكبوت: 48) أن الحِفْظ يقوم مقَام الكتاب. وأحال؛ لأن الحِفْظ يكون عَن تِلاوَة، وَمَا بالإلقاء عليه فهو عَن كتاب يُقْرَأ.
وبعد، فَإِنَّمَا ذلك إِنَّمَا يكون بِمن يظْهر اختلافه عِنْد من يعرف بِه، وَمَعْلُوم أَنه نَشأ بَين أظهرهم، ولم يُعرف في شَيْء من ذَلِك. ولَولا ذَلك لَكَان هذا القدر من المُقَابلَة سهلا لا يعجزون عَنهُ.
[كتاب التوحيد للماتريدي، ص: 264-269]
د. الحسين زروق
———————-
([1]) – قال محققه في الهامشين 5، 6: ك م: بالإنكار والدفع. والأذكار جمع الذكر، وهو الصوت والثناء والشرف.