مدار الخشوع في اللغة على التطامن وسكون الجوارح ، قال ابن فارس: “الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدلُّ على التَّطامُن. يقال خَشَع، إذا تطامَنَ وطأْطأَ رأسَه، يخشَع خُشوعاً”.
ويقرب معنى الخشوع من معنى الخضوع ومن معنى الضراعة، قال الراغب في كتاب المفردات: “الخُشُوع: الضّراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح. والضّراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب”. وقال ابن فارس: “وهو قريبُ المعنى من الخضوع، إلاّ أنّ الخُضوع في البدَن… والخشوعَ في الصَّوتِ والبصر”.
إلا أن السمين الحلبي يؤكد تعلق الخشوع بالقلب وبالجوارح كلها، وهذا ما سيأتي تأكيده عند إيراد الآيات المشتملة على مصطلح الخشوع، قال بعد أن أورد كلام الراغب أعلاه: “قلت: وقد رأى عليه الصلاة والسلام رجلًا يعبث في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»” (وهذا الحديث لاتصح نسبته إلى الرسول بل نسب إلى بعض الصحابة).
والمأخذ اللغوي الذي أخذ منه مصطلح الخشوع هو الخشعة من الأرض، قال ابن فارس: “والخُشْعَة: قِطعةٌ من الأرض قُفٌّ قد غلبَتْ عليه السُّهولة. يقال قُفٌّ خاشع: لاطِئٌ بالأرض”، وقد أورد بعض اللغويين في هذا المعنى حديثا كما جاء في عمدة الحفاظ للسمين الحلبي: “وفي الحديث: «كانت الكعبة خشعةً فدحيت الأرض من تحتها». هي الجاثمة واللاطئة بالأرض”. (الحديث أورده الزمخشري كما ورد في العديد من كتب اللغة، دون كتب الحديث في ما أعلم).
إذا كان الخشوع في اللغة يتعلق بالجوارح أكثر من تعلقه بالقلب، فإنه في الاستعمال القرآني يتعلق بالجوارح وبالقلب وبكل ذلك مجتمعا، كما تعلق بالأرض وبالجبال باعتبارها خاضعة لله كما يدل عليه قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ(الإسراء: 44).
فقد ورد الخشوع واصفا لما يلي:
• الجبال:لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (الحشر: 21).
• الأرض:وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً (فصلت: 39).
• الأصوات:يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (طه: 108).
• الأبصار:خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ(القمر: 7).
• الوجوه:هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (الغاشية: 1-2).
• القلوب:أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (الحديد: 16).
• المسلمون:إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(الأحزاب: 35).
• المؤمنون:قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ(المؤمنون: 1-2).
مما نلاحظه من موارد الخشوع في القرآن الكريم، أنه حيثما ورد عاما ورد على الوجه الاختياري المحمود، إلا في قوله تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ . وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ(الشورى: 44-45)، وهو هنا مخصص بخشوع الذل.
وحيثما ورد متعلقا بجارحة من الجوارح ورد على الوجه الإجباري المذموم الخاص بمواقف العصاة يوم القيامة، إلا في قوله تعالى: أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (الحديد: 16).
ذلك أن أكثر نصوصه جاء فيها متعلقا بالمسلمين والمؤمنين دون تخصيص بجارحة من الجوارح، كما نجده في مثل قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (البقرة: 45)، وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: 35)، وقوله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ (آل عمران: 199)، وقوله: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (الأنبياء: 89-90)، وقوله: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (الإسراء: 109).
فكأن الإنسان إما أن يخشع لله في الدنيا خشوعا تاما كاملا تواضعا لله واعترافا بفضله، فإن لم يفعل خشعت أبعاضه مجزأة بحسب المواقف التي سيتعرض لها ابتداء من لحظة الخروج من المقابر، يصف الله تعالى لحظة النشور بقوله سبحانه: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (القمر: 7)، وبقوله عز من قائل: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا(طه: 108)، وقوله في وصف بعض لحظات الوقوف بين يديه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ (القلم: 42-43).
ومما يدل على أن الخشوع التام المطلوب هو ما كان بكلية المؤمن ظاهره وباطنه وبجوارحه مجتمعة، ما ورد في الحديث الصحيح أن الرسول كان “إِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» (رواه مسلم).
ولعل مصدر ارتباط الخشوع بما يطلب من المؤمن في الصلاة هو هذا الحديث، إضافة إلى آيتي سورتي البقرة والمؤمنون، اللتين تصفان المؤمنين بالخشوع في الصلاة، وبذلك يستفاد من مجموع ما سبق أن الخشوع المطلوب من المؤمن هو الخضوع التام لخالقه، سواء في صلاته أو في خارج الصلاة، على أن يكون هذا الخشوع صفة ملازمة له ظاهرا وباطنا اعترافا منه بفضل الله عليه وافتقاره هو لهذا الفضل باعتباره عبدا لله لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا أن يشاء الله له شيئا من ذلك، وذلك هو ما يشترك فيه الخشوع والخضوع والضراعة باعتبارها مصطلحات متكاملة في ما بينها، وهي في مجملها تحدد ما ينبغي أن تكون عليه علاقة المؤمن بخالقه سبحانه وتعالى من تواضع لله وتسليم لأمره واسجابة لأحكامه. والله أعلم وأحكم.