تقديم:
إن الإعداد لأي أمر وفَنٌّ من الفنون له قواعده ومقاصده، وله ضوابطه وشرائطه، وإن كل عمل لم يسبقه إعداد ولا تَهْيِيء إلا حف بالمخاطر والمحاذير، وعلى قدر أهمية الأمور وعظمة التدابير يكون الإعداد لها. ولما كانت الخطابة منصبا شرعيا لا يخلو الكلام فيه من التوقيع عن رب العالمين ونصح المسلمين، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور الدنيا والدين، كان الإعداد لها واجبا بقصد الارتقاء إلى الأحسن، والتقرب إلى الله تعالى بالأطيب الأجود، ونفع الناس بالأفيد، ونظرا لأهمية الإعداد الجيد للخطبة الذي يعد مقدمة أساسية للتأثير الفعال، فإن كثيرا من فضلاء الخطباء يحرصون عليه غاية الحرص، ويواظبون على التحضير للخطبة غاية المواظبة، ويجتهدون في التخطيط لها تخطيط بناة العمران كيف لا وهي هندسة لبناء الإنسان وإصلاح الأمة، فلا تخطيط لعمران قبل التخطيط لإصلاح الإنسان، إلا أن كثيرا من الظواهر السلبية أخذت تطفو على السطح تقلل من فرص الإعداد وتؤثر سلبيا على جودة الإعداد للخطبة وعلى مكانة الخطيب، ومن هذه الظواهر الاعتماد الكلي على المواقع الإلكترونية، وعلى الخطب الجاهزة المنشورة في الشابكة أو في الكتب المتخصصة أو بالنقل والإعارة من عند الخطباء. الأمر الذي قد تكون له عواقب وخيمة على الخطيب تؤدي به إلى الوقوع عن غير علم منه في محذورات عديدة.
لذلك نتساءل هنا:
- لماذا يعد الإعداد واجبا؟ وما هي موجباته؟
- وما هي أهم المحذورات والآفات التي يمكن أن يفضي إليها الاعتماد الكلي على المواقع والمصادر الجاهزة؟
- وأخيرا ما هي خطوات الإعداد الفعال؟ وما ضوابطه وإجراءاته؟
- وما هي مزايا الإعداد المتقن؟
أولا: موجبات الإعداد الجيد للخطبة:
تتعدد الموجبات التي تجعل التحضير الجيد أمرا ضروريا والإعداد الفعال أمرا مطلوبا لما يترتب على ذلك من جلب المقاصد الحسنة التي شرعت الخطبة لجلبها ودرء المفاسد التي تنجم عن إهمال هذا النوع من التحضير والإعداد، ويمكن حصر هذه الموجبات في خمسة: موجب شرعي، وموجب علمي، وموجب أخلاقي، وموجب عقلي تنظيمي وموجب واقعي.
فكيف ذلك؟ وما أثر هذه الموجبات في تجويد عمل الخطيب وتحسين أدائه؟
1 – الموجب الشرعي:
تتعدد وجوه الموجب الشرعي لإعداد الخطبة وإحسانه وإجادته على النحو الآتي:
- لأن الإحسان مطلوب في كل شيء والإتقان مأمور به في كل الأعمال؛ قال تعالى آمرا المسلمين: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴿(البقرة: 83).﴾
وأمر تعالى رسوله أن يأمر عباد الله بأن يقولوا التي هي احسن؛ فقال تعالى: قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴿(الإسراء: 53).
وحث المؤمنين على الارتقاء لدرجة الإحسان فقال جل وعلا: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴿(البقرة: 195).﴾
كما وعد الله تعالى من أحسن العمل أنه لا يضيع له أجره؛ فقال سبحانه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴿(الكهف: 30).
مما يستفاد منه ومن غير هذه الآيات وجوب لزوم الإتقان في ما يقال للناس ومن وجوه إتقان القول والخطاب إعداده وتحضيره.
وقول النبي : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» (الصحيحة للألباني 1113).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة».
- لأن فيه تبليغا عن الله تعالى وتوقيعا عن رب العالمين فلا يصح إلا عن علم، والعلم لا يصح إلا بعد إعداد وتأمل وطول روية وتفكير في مسائله ووسائله ودلائله، وتهيئة ما يناسبه ويصلح له ويصلح به.
- لأن الخطبة واحدة من الوسائل التي شرعها الشرع لاستمرار التدين واجتماع المسلمين على أمور دينهم ومعالجة مشكلاتهم ونوازلهم، ولولا الوعظ والتذكير والتعليم لفتر الإيمان وضعفت العزائم وما ازدادوا رقيا في الخير في كل أحوالهم، والوعظ والتذكير لا يؤتي أكله على الوجه المحمود الممدوح بالإعداد الجيد والتدبير الحسن والاهتمام المستمر واليقظة الدائمة من قبل الخطيب والمواظبة على الاجتهاد في تشخيص أمراض النفوس والمجتمع والبحث عما به تجلب المصالح وتدفع المفاسد.
- أن خطبة الجمعة وما يدخل ضمنها من أشكال الوعظ والإرشاد والتعليم إنما هي وسائل للدعوة إلى الله تعالى، فيجب العناية بها وبما يلزم من النظر لها وما يناسبها من المعدات والوسائل والطرائق وكيفيات تنزيلها ومقاصدها، وما يناسب أحوال المخاطبين ومستوياتهم من المضامين والمناهج، ومن الطرائق والأساليب، فالخطيب داعية إلى الله تعالى أسوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والداعية إلى الله أحرى بأن يجيد عمله ودعوته؛ لأنه يتقرب بهما إلى الله تعالى.
2 – الموجب العلمي/ المنهجي:
من القواعد المقررة في العلوم والأبحاث العلمية عدم الركون إلى المعارف السابقة ولا الجمود على المكتسبات العلمية والمعرفية دون تطويرها والاجتهاد في التحصيل عن طريق الإكثار من مطالعة الكتب والمطبوعات والمنشورات ومشاورة أهل العلم والخبرة ومداومة البحث العقلي والشك والنقد وسبر أغوار المصادر المعرفية ومساءلتها.
كما أن الأصل في المعارف الزيادة والنقصان والتغير مع مرور الزمن فتضعف حججها وقيمتها ويقوى عليها غيرها.
ولما كان الخطيب باحثا علميا فإنه لابد أن يجري عمله الخطابي وبحثه عن الموضوعات وفي مسائلها على هذه القواعد الذهبية التي تجعل العلوم حية ومتجددة ومتجاوبة مع حاجات الناس.
وإذا كان الإعداد والبحث العلمي مفيدا في تجديد العلوم والمعارف فكذلك في علم الخطابة. وإذا كانت صفة الباحث العلمي لا تطلق إلا على من كان مداوما عليه شغوفا به مهموما به مخططا لإجراءاته متحديا صعوباته، دائم الإعداد والاستعداد فكذلك الشأن بالنسبة للخطيب فمادام باحثا فيشترط فيه ما يشترط في الباحث العلمي من ضوابط الإعداد العلمي للخطبة لأن هذا الإعداد هو أحد أهم عناصر قوة الخطيب وأحد أبرز العلامات الدالة على حيويته العلمية وقدرته على معرفة ما يحتاجه الناس ومعرفة الحلول المناسبة مشكلاتهم وبهذا يكتسب قوة الإقناع والتأثير والارتقاء المستمر في عمله لذا عد العلماء الأهلية العلمية شرطا ضروريا في الخطيب ومن هنا فلا يتصور في الخطيب أن يعتمد على خطب غيره اعتمادا كليا بالنقل الحرفي دون بذل الجهد في إبداع خطبته، ولا ينبغي أن يُتساهل في تركه الاجتهاد في البحث عما يناسب بيئته انطلاقا من فهمه المبني على قواعده العلمية، وإبداعه العقلي المسدد بهدايات الوحي وعلومه، وحرارته الإيمانية المنضبطة بقواعد فقه الواقع وفقه التنزيل، ولا يعذر بالغفلة عن بذل النظر في تقويم خطب غيره، والموازنة بينها وبين حاجات محيطه وسياقه.
3 – الموجب الأخلاقي:
في لزوم التحضير للخطبة كثير من الجوانب الخلقية كيف وهو ذاته فضيلة خلقية سامية. لماذا؟ وكيف؟
لأن:
- التحضير والإعداد فيه دلالة قوية على احترام الخطيب لنفسه وحفظ كرامته، وتقدير منزلته عند جمهوره، وفيه دلالة على احتياطه الشرعي في التقول في دين الله بغير علم ومن غير التحقق والتوثق مما يبلغه للناس ويدعوهم إليه من التوجيهات والتكاليف الشرعية.
- التحضير الجيد للخطبة وإجادة إعدادها إنما هو إكرام لضيوف الله تعالى وإفادتهم بما ينفعهم ويصلحهم في المعاش والمعاد كيف وقد جاؤوا منقادين لأمر الله تعالى لسماع كلمات الله جل وعلا، و عطشى لتلقي بيان نبيه ، وعلى استعداد لأخذ أسباب تقوية الإيمان وإصلاح العمل ونوال الأجر من الله تعالى؟!. لذا وجب الحرص على إكرامهم بالإعداد والاستعداد العلمي والإيماني، إذ الإعداد بمثابة تخير ما يصلح في إطعام أرواحهم وعقولهم وسلوكهم كما نتخير في إطعام ضيوفنا مما يحقق الأنس والتآلف والمودة ويقوي لحمة الروابط.
4 – الموجب العقلي التنظيمي:
لأن الإعداد يناسب طبيعة العقل القائمة على استشكال الأمور ومحاولة تصورها ووضع خريطة ذهنية تيسر مسالكها وتوضح مشاكلها، أما عدم التحضير فليس من طبيعة العقل وإنما هو حال عارض عليه بسبب التربية والإلف والعادة والركون إلى الاستسلام والقبول بالجاهز. لذلك فإن الإعداد العقلي إنما هو إدارة العقل لمجموع العمليات التي تسعفه في التخطيط والتدبير وتوقع المشكلات والبحث مليا عن حلولها قبل حلولها، فكلما كان التحضير للعمل جيدا كان الإنجاز أتقن والمردودية أجود، فلا إلقاء جيدا بدون تحضير جيد أو أجود، لذلك فاحتراما لعقولنا وتقديرا لنعمة الله تعالى التي وهبنا وجب علينا إعمال عقولنا وبذل وسعنا في ذلك.
5 – موجب الواقع الإنساني والاجتماعي:
وهو موجب يراعي واقع الناس واختلافهم اختلافا واسعا يشمل الأفراد فيما بينهم، كما يشمل الجماعات والمجتمعات فيما بينها أيضا، وبناء على ذلك يلزم ما يلي:
- ضرورة مراعاة واقع الناس وفروقهم الفردية وخصوصياتهم الاجتماعية (زمانا ومكانا، وثقافة، بدوا وحضرا، جهلا وعلما، إقبالا وإحجاما…) ومن هنا ليس من السليم اعتماد خطبة ما اعتمادا كليا لتوجيهها لجمهور ثان أو ثالث مختلف تمام الاختلاف عن الجمهور الأول الذي وجهت له ابتداء مع اختلاف السياق التاريخي والثقافي وتباين الخصوصيات.
- وجوب قيام الخطيب بدراسة حاجات جمهوره وأمراضه الخلقية والإيمانية… وتحديد أولوياته في العلاج، وبناء عليه يكون إعداده إعدادا واقعيا مناسبا لبيئته الخاصة والعامة ويلمس قلوب السامعين ومن صميم شواغلهم واهتمامهم مما يقربهم من الخطيب ويأنسون بما يدعوهم إليه من الخير والدخول في رحمة الله تعالى.
الطيب بن المختار الوزاني
——————-
(*) عرض مقدم للدورة التكوينية لفائدة الخطباء.
التي نظمها المجلس العلمي المحلي لفاس
بتاريخ 12 /04 /2018