فمتى نهتدي بهداه في إصلاح أوضاعنا؟!
أنزل الله تعالى القرآن الكريم وجعله أصل الأصول وموجها لكل العقول، وهاديا للخير والحق في كل المجالات والحقول؛ قال تعالى: إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (الإسراء: 9)، وقل سبحانه: قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ (آل عمران: 73) وقال تعالى أيضا: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ (البقرة: 120).
ومنذ أن نزل الوحي على سيدنا محمد انطلق مبينا له وعاملا به وداعيا إليه، فأنشأ نموذج الإنسان الصالح والأمة الراشدة.
وقد سار جيل الصحابة بعد رسول الله على هذا النهج النبوي القويم في التربية القائم على أسس تربوية أصيلة وأصول متينة؛ منها:
1 – توحيد مصدر التلقي: فلا شيء يوجه الفهم والسلوك، ولا شيء يغذي التصور ويقوم التصرف غير الوحي القرآني أو ما يوجه إليه النبي أصحابه من خلال قوله أو فعله أو تقريره وهو نفسه وحي ثان مبين للوحي الأول مصداقا لقوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَ (النجم: 3)
وقوله : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (الحشر: 7).
2 – مدارسة ما نزل من الوحي: لفقهه والعمل به والاحتكام إليه ولم يتركوا شيئا من الوحي إلا ثقفوه ولقفوه، وسارعوا لتلقيه وامتثاله وصياغة حياتهم كلها وَفْقَه، فقد ورد عن ابن مسعود أنه قال: “كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن” (أخرجه البيهقي في سننه).
وسارت الأمة بعد رسول الله تهتدي القرآن وتنشر توجيهاته وتبني الحضارة والعمران على قواعده ومقاصده.
غير أن الأمة كانت في بعض المراحل التاريخية تعرض لها صروف تصرفها تدريجيا عن ميراث النبوة وتحيد بها عن المنهاج القرآني في إصلاح الإنسان والعمران، حتى زاحمته بمصادر أخرى وعوضته بأصول أخرى، ودب ذلك دبيبا حثيثا حتى اختلطت على المسلم مصادر التلقي والتغذية الفكرية وتعددت مصادر التأثير والتوجيه المؤثرة على الفكر والسلوك، وانفردت القوانين الوضعية بتنظيم العلاقات بين الناس في سائر القطاعات والمجالات.
وبسبب ذلك انتشر كثير من صور الفساد، وتغلب التفسخ الخلقي على مكارم التربية والتزكية؛ وقد أسهم ذلك في إفساد مجالات النظام الاجتماعي التي منها:
1 – قطاع التعليم: الذي ضعف فيه حضور القرآن الكريم وعلومه وانحصر توجيهه العلمي والتربوي للناشئة، فأصبحنا اليوم نجني علقم ما غرسته أيدينا.
الأمر الذي يستوجب حقيقة إعادة النظر في الفلسفة العامة لنظام التربية والتعليم ومنهاجه ليتبوأ القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما مكان الصدارة والأولوية، ويتوسع حضوره في التربية والتعليم في مختلف الشعب والمراحل كما وكيفا ولا يستثنى من ذلك تخصص ولا مرحلة، مع ضرورة إحداث آليات كفيلة بالتتبع والتقويم والتصحيح وضامنة لتحقيق المقصود.
2 – قطاع الإعلام: الذي غلَّب كفة الترويج لكل بضاعة معرفية ذات التأثير السلبي على فاعلية الإنسان وسموه الخلقي لتصنع منه مجرد كائن استهلاكي تقف طموحاته عند الإشباع الغريزي من غير التزام بضوابط الحلال والحرام، ولا توازن بين حاجات مكوناته الإنسانية، ولا توازن في إصلاح علاقاته مع ربه ونفسه وأخيه ومحيطه.
مما أصبح من الضروري أيضا إصلاح المنظومة الإعلامية كاملة لتصير مسهمة في إعادة الأمة لوحي ربها ونشر هدايات الإسلام في معالجة المشكلات وحل المعضلات.
3 – قطاع العدل والتشريع والتدبير الإداري:حيث غلب عليه الأخذ بمصادر القانون والتشريع والتدبير ولو صادمت البيئة الإسلامية برز ذلك في التشريع والتدريس وانعكس جليا على خريجي مؤسسات التكوين في مجال العلوم القانونية والاقتصادية والتدبير والتسيير. فكيف ينتظر من جيل فصل عن أصوله أن يوجه إليها عقوله، وينظم بها شؤونه؟؟!!
4 – مؤسسة الأسرة: التي منها يخرج الطفل إلى الوجود وهي المحضن الذي يظل يرعى الطفل إلى سن البلوغ وما بعده، هذا المحضن الذي لم يعد يقوم بوظائفه التربوية كاملة، وحلت محله محاضن أخرى أكثرها مفسد، الأمر الذي يتطلب فعلا التفكير الجدي في إنقاذ الأسرة المسلمة من عدد من التحديات والمعيقات التي تعطل قيامها برسالتها التربوية والتوجيهية النبيلة.
إن أمانة حسن التربية إنما تقع على عاتق الوالدين عموما رغم صعوباتها اليوم أمام تعدد مصادر التوجيه والتأثير، ولم ينحصر دور الأسرة إلا حينما استقال الآباء والأمهات من وظيفتهم واستسلموا لمسايرة تيار الأهواء الجارف.. والحق أنه لا يزال بإمكان الوالدين عقد مجالس أسرية للتربية والتوجيه غذاؤها الوحي الرباني، وماؤها حسن الرعاية والتلطف، وهواؤها حسن التخلق في البيت بالقرآن الكريم وبأخلاق الرسول لإشباع حاجات الطفل في التعليم والتربية بالقدوة الصالحة وتأهيله للنفع وخدمة الصالح العام.
إن هذا الوصف للواقع وما تضمنه من مقترحات الدعوة إلى مزيد من الاهتداء بهدايات القرآن الكريم لا يقلل من أهمية كثير من الجهود الرسمية وغير الرسمية المبذولة للحفاظ على أصلية القرآن الكريم والهدى النبوي وتقوية صلة الأمة بأصولها وإحياء نفوسها بها أولا قبل غيرها، غير أنها جهود تظل ضعيفة التأثير مقارنة بحجم التيار الجارف نحو تغريب الأمة عن ذاتها وتغييبها عن الإسهام في البناء انطلاقا من مقوماتها وخصوصياتها.
وأخيرا إن أمة تصنع تاريخها بالوحي وتسطر أمجادها بأخلاق القرآن وتقيم دعائم عمرانها على هدايات الإسلام لن تؤثر فيها عومل التعرية ورياح التنحية؛ فهي لا تزال تملك رجالا في كل المواقع يذبون عن أصولها ويجتهدون مخلصين لله جل وعلا ولأوطانهم للاستئناف السليم الراشد بإذن الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة : 105).