تمهيد:
الدين الإسلامي دين القيم الحضارية بامتياز، بما فيها القيم الجمالية، ويمكن القول إن تربية الذوق السليم من مقاصد الإسلام، يتجلى ذلك في كون القرآن الكريم يوجه أنظارنا وانتباهنا كثيرا إلى مظاهر الجمال في مخلوقات الله تعالى، حيث خلق الله الكون في نسق ونظام بديع، ويدعونا لتأمل آيات الجمال الدالة على خلقه وإبداعه كما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ(ق: 6-7-8).
وقوله أيضا عز وجل: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات: 6).
وغيرها من الآيات التي تثير الانتباه لعظمة الخالق وتوقظ الإحساس بالجمال في النفوس وتنمي الذوق الفطري السليم -أي الصحيح الجيد- الذي يدرك الجمال بنوعيه؛ الظاهري الذي يمتع النفس ويزكيها، والباطني الذي يقوي الروح والتعلق بالله تعالى.
والرسول يقول: «الله جميل يحب الجمال..» (صحيح مسلم).
والذوق في أصله اللغوي هو: الإحساس الذي يميز خواص الطعوم أوالأجسام الطَّعْمِيَّة وأداته اللسان، (يقال: ذاق الطعام أو غيره: اختبر طعمه، وذاق الشيء: جربه، ويستعمل مجازا في المعنويات، فيقال: ذاق ألوان العذاب بمعنى: أحسها وتألم بها، وتذوق القطعة الشعرية: إذا أدرك عناصر الجمال فيها) (اللسان لابن منظور).
وورد في المعجم الوسيط: “الذوق في الأدب والفن: حاسَّةٌ معنوية يصدر عنها انبساطُ النفس أَو انقباضها لدى النظر في أثرٍ من آثار العاطفة أَو الفكر…”
وتربية الذوق تعني تنمية الحاسة التي تدرك مظاهر الجمال المادي في الأشياء الطبيعية كالألوان والروائح الطيبة، والمعنوي الذي يستشعر الجمال في الآثار الفنية والأدبية، ويهمنا في هذا المقام معنى الذوق كما أورده أحد الباحثين بقوله :
“الذوق هو الحاسَّة المعنوية الشفَّافة التي تدعو صاحبَهَا إلى مراعاة مشاعر الآخرين، وأحوالهم، وظروفهم، وهو أدبيَّات التعامل مع الناس، وهو الفنُّ الجميل في العَلاقة مع الآخرين… ويقصد به جمال التعامل وجمال التصرف، وجمال الموقف، وجمال الخطاب، وجمال السلوك، وجمال العمل، وجمال النظام …الخ.”
فصاحب الذوق السليم الذي يحب الجمال ويتذوقه، ينعكس الجمال في مظهره (اللباس والهندام) وفي سلوكه، وكل تصرفاته؛ في جلسته وحركاته، وفي طريقة أكله وشربه، وطريقة كلامه مع الناس وتنظيم أفكاره، يحترم مشاعر الآخرين، لا يرفع صوته بالكلام، يختار الألفاظ وينطق بالطيب من القول، لا يؤذي أحدا بيده ولا بلسانه، يعفو ويتسامح…
ولعمري لا يمثل هذه الأخلاق وهذا الرقي الحضاري بشكل ناصع، إلا سيد البشرية ذو الخلق العظيم والمثل الأعلى للإنسانية، نبينا محمد ، فمن سيرته العطرة، وسنته المنيرة نستقي معالم تربية الذوق السليم في هذا المقام، ومجالاتها كالتالي:
1 – الذوق السليم في مجال الطهارة والنظافة:
دين الإسلام دين النظافة والنقاء بل دين الطهارة من كل الأدناس والأرجاس الظاهرة والباطنة، والطهارة في الإسلام أعمق وأشمل من النظافة، فهي طهارة للبدن وللباس والمكان وطهارة النفس والعقل والروح، ولو لم يكن للمسلمين ما يفتخرون به على غيرهم في مجال التحضر سوى هذه الطهارة لكفاهم ذلك فخرا ورقيا حضاريا، ونبينا محمد النبي الطاهر الطيب، هو المثل الأعلى للصفاء والنقاء، وهو قدوتنا في التطهر والذوق الرفيع، وسنته القولية والفعلية غنية بالشواهد والأدلة، وفيما يلي نماذج من ذلك:
أ – حث الرسول في أكثر من حديث على التمسك بسنن الفطرة:
وهي سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، التي خالفها أهل الكتاب فضلا عن المشركين، ويجهل تفاصيلها كثير من المسلمين، ومن حافظ عليها وطبقها كان نظيفا طاهرا، ومتحضرا حقا، وإلا كان ظاهره نظيفا وباطنه نجسا، كما هو شأن من لا ينتقص الماء (الاستنجاء من البول) كما هو شأن غير المسلمين، وغير المصلين من المسلمين. ومن عناية الإسلام بالنظافة أن جعل سنن الفطرة من أساسيات الطهارة والتي هي شرط في الصلاة، ومن الأحاديث الواردة في سنن الفطرة:
- قوله : «خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط» (من رواية أبي هريرة في الصحيحين؛ البخاري ومسلم).
- وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»، قَالَ زَكَرِيَّاءُ قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلا أَنْ تَكُونَ المضمضة. (رواه مسلم، وأصحاب السنن).
ولا ينبغي الإغفال عن سنن الفطرة أكثر من أربعين يوما، لما ورد في (صحيح مسلم)، عن أنسٍ أنه قال: “وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً”.
ب – تشريع الوضوء للطهارة الصغرى والاغتسال للطهارة الكبرى:
لا يخفى ما للطهارتين الصغرى والكبرى من أثر في الذوق السليم وفي الرقي الحضاري، ولعل المقام لا يستدعي تفصيل عملية الطهارة الصغرى والكبرى وكيف يتم تنقية الأطراف أولا ثم الجسد بكامله -كما ترد في فقه العبادات- لكن المقام يقتضي بيان ما يدل على الرقي الحضاري في شعيرة الطهارة من خلال فوائدها وفضائلها التي تجلي ما نحن بصدده وهي:
- فمن الناحية الصحية الجسدية؛ لكل من الوضوء والاغتسال فائدة عظمى في الوقاية من الجراثيم والميكروبات كما أثبت ذلك الباحثون المختصون.
- ومن الناحية النفسية؛ للوضوء دور كبير في حياة المسلم، إذ يجعله دائما في يقظة وحيوية وتألق، وله أثر على الشعور بالرضى والارتياح.
- للاغتسال دور مهم في تنشيط الخلايا، والاستحمام مهم في تجديد نشاط الجسم والعقل ويجعل المرء في أكمل حالاته النفسية أيضا.
فضلا عن الشعور بالارتياح عقديا لأن المؤمن يشعر بأنه أدى واجبا مع الله تعالى، وينتظر الجزاء الموعود به في قول الرسول : «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت الخطايا من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» (رواه مسلم في صحيحه). ومعلوم أن النقاء هو العلامة الكبرى للرقي الحضاري، وكلما تحققت النظافة لدى الأفراد كلما عمت المجتمع فبنظافة الأفراد يتم نظافة المجتمع مما يحتم على الآباء والمربين تعويد الناشئة على الطهارة منذ صغرهم فنقاء الجسد يؤثر على نقاء العقل والفكر وهما مظهر التحضر الحق.
ج – تشريع السواك والتطيب تسننا واستحبابا:
من أرقى ما تمتاز به السنة النبوية تشريع السواك واستعمال الطيب، والرسول -قدوتنا وإمامنا- سيد الطيبين الطاهرين يقول: «حُبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرَّة عيني في الصلاة» (صحيح سنن النسائي).
والسواك سنة حث عليها الرسول في كثير من الأحاديث، وداوم عليه عمليا في كثير من الأوقات حتى في الليل إذا استيقظ أو قام للتهجد، بل حتى عند احتضاره كما تروي ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، مما جعل بعض العلماء يقولون إن السواك سنة مؤكدة وليس مستحبا فقط.
وفوائد السواك الصحية / الوقائية للأسنان لاينكرها إلا جاهل، فضلا عن فوائده الاجتماعية و التعبدية ، وذلك ما تجليه الأحاديث الآتية:
- روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: عن النبي قوله: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (النسائي وابن ماجه).
- وروى أبو هريرة عن النبي قوله: «لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (متفق عليه)، وفي رواية أحمد وغيره: «…لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء». وغيرها من الأحاديث.
لكن هذه السنة الرائعة قليل من يتمسك بها، فكثيرا ما تشم روائح الأفواه غير النقية في صفوف الصلاة بين المسلمين -مع الأسف الشديد- فلاهم يتمثلون التحضر النبوي ولا التمدن الغربي.
والتطيب أيضا سنة من سنن المصطفى التي داوم عليها وأمر بها أمته خاصة عند الذهاب للمساجد والمجامع والمجالس مراعاة لمشاعر الناس وتمثلا للذوق الحضاري الرفيع.
- روى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال قال النبي : «من اغتسل يوم الجمعة فأحسن الغسل، وتطهر فأحسن الطهور، ولبس من خير ثيابه، ومس مما كتب الله له من طيب أو دهن أهله، ولم يفرق بين اثنين؛ إلا غفر الله له إلى الجمعة الأخرى».
- عبد الرحيم مفيكر مقال (الذوق الجمالي في الإسلام) منشور في موقع حركة التوحيد والإصلاح.
2 – قَالَ وَكِيع: “انتقاص المَاء يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء”، والبراجم: عقد الأصابع التي في ظاهر الكف، وقيل عقد الأصابع ومفاصلها كلها. ومعنى التنزه هو: التطهر والاستنجاء.