المجتمع الذي نعيش فيه، لا يكون صالحا إلا إذا قام على أسس قوية، ودعائم ثابتة، وأخلاق فاضلة، وقد جاءت الأديان السماوية في جميع العصور بهذه الأسس، وتلك الدعائم وحث عليها الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، ودعوا إليها، وجاهدوا من أجلها، وعملوا على تحقيقها وإقرارها، ذلك أن الأديان السماوية، إنما هي من عند الله تعالى الحكيم الخبير، الذي أرسل رسله الكريم، وهم الصفوة المختارة من بني آدم لهداية البشر، وأيدهم بالمعجزات الخارقة ليهز قلوب الناس، ويفتح آذانهم وأبصارهم، ليتقبلوا دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ويؤمنوا بالشرائع التي بعثهم الله بها، فاقتضت حكمة الله البالغة، ومشيئته النافذة، أن يضع لهم من المبادئ والشرائع، ما يهذب نفوسهم وينير قلوبهم، ليصلح المجتمع، ويعيش أفراده جميعا في سعادة وخير واطمئنان.
يتوقف صلاح المجتمع، وسعادة الإنسان على مدى تمسك الأفراد والجماعات بهذه المبادئ، وتلك الشرائع، فكلما تمسكوا بها في سلوكهم وتصرفاتهم، وكلما التزموا بها، وأخلصوا النية في إقرارها وفي احترامها، كلما صلح المجتمع، وأهم هذه المبادئ والدعائم “الحب” لأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل، وكل ما يمنع تحقيق الحب الصادق، فهو مخالف للإيمان الحق.
والحب أقسام ثلاثة: حب الله، وحب رسوله. وحب عباد الله.
فأما حب الله تعالى، فهو أن يحبه المرء حبا خالصا صادقا يملأ قلبه، حبا يستشعر به عظمة الله عز وجل، ويؤمن به ربا قويا قادرا متصرفا، بيده ملكوت السماوات والارض، وهو على كل شيء قدير، لا يعبد غيره، ولا توكل إلا عليه، ويعرفه معرفة حقة لا يحاول معرفة كنه ذاته، لأن ذلك خارج عن قدرة البشر، والله يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى: 9). فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، وهو سبحانه ظاهر في كل شيء، تنطق بقدرته جميع الكائنات، ويسبح بحمده كل شيء، قال تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم (الإسراء: 44).
وبهذا الحب، وذلك الإيمان، وتلك المراقبة، يعيش المرء مدة حياته، مقرا بالعبودية لله، معترفا بفضل الله عليه، ونعمه الكثيرة قال تعالى:﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم: 36).
ولا يتحقق شكر الله وحمده، إلا إذا سارع العبد المؤمن إلى أداء واجباته، والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، فلا يجتمع حب الله مع مخالفة أمره.
وأما حب ر سول الله ، فهو أن يحبه المرء حبا عظيما، يتناسب مع سمو رسالته، ونبل غايته، ويستحضر دائما أن الله تعالى قد اصطفاه واختاره لهداية خلقه، وفضّله على سائر مخلوقاته، وجعله سيد الأنبياء، وخاتم المرسلين، وجعل شريعته خاتمة الشرائع، فهي الشريعة الكاملة الخالدة وأن الله تعالى قد أجرى على يديه كل خير، فعلى المرء أن يحب رسول الله ، أكثر من كل شيء، وحتى من نفسه التي بين جنبيه، فإن ذلك شرط في إيمانه لا يتحقق إلا به، قال : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولد ووالده والناس أجمعين» (رواه البخاري).
وأما حب عباد الله، فهو أن يستحضر العبد المؤمن دائما أنهم إخوة له، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (الحجرات: 10). ومقتضى هذه الأخوة، أن يعاملهم بالحسنى، وأن يجلب إليهم الخير، كل أنواع الخير، ويدفع عنهم الأذى كل أنواع الأذى. قال :«المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره» (رواه مسلم).
قال الشاعر:
فلا تحقرن شخصا من النــــاس علّه
ولـي إله العـــالمـين ولا تــــدري
فذوا القدر عند الله خاف عن الورى
كما خفيت عن علمهم ليلة القـدر
ومما ينبغي الإشارة إليه، أن الصلاة المفروضة -مثلا- التي هي عماد الدين، وصيلة بين العبد وربه، لا ينال العبد العبد ثوابها كاملا، إلا إذا كان المصلي يحب عباد الله، لأنه يقول في تشهده (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فهو يدعو لنفسه ولعباد الله بالسلام والصلاح، وهذا لا يتم إلا إذا كان محبا لهم، لأنه لا يجتمع دعاء الخير لقوم وهو كاره لهم، يعمل على إيذائهم، وإيصال الضرر إليهم، ولأن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر (العنكبوت: 45).
ومما تقدم يتبين لنا أن الإسلام يدعو إلى الإحسان بين الناس، وإلى العدل بينهم، لأنه يحقق السعادة والاطمئنان لكل البشر، والعدل يقوم على الحب بين الناس، والتآخي بينهم، والتناصر في الحق، والتعاون على البر والتقوى، ومن أسمى مظاهر الحب والإيثار والتضيحة، قول الله تعالى في معرض مدح الأنصار رضوان الله عليهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (الحشر:9) والخصاصة: الحاجة. وقد بلغ من حب الأنصار لإخوانهم المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة تاركين أموالهم وديارهم في سبيل دعوة الحق، ونصرة الدين، حيث كان الأنصاري يتنازل لأخيه المهاجر عن نصف ماله، وذلك مثل أعلى في الحب والإيثار ونكران الذات.
والشريعة الإسلامية وهي خاتمة الشرائع، والتي اختصها الله بكونها صالحة لكل مكان وزمان، تهدف إلى مكارم الأخلاق، قال : «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق» (رواه الترمذي). فجميع العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج، إنما تهدف إلى تهذيب النفوس، وزرع الحب بين الناس لتصلح أمورهم، وتتم سعادتهم وسلامتهم. قال : «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه» (متفق عليه).
المجتمع الذي يتحقق فيه العدل، ويقوم على دعائم من الحب والأمن ومكارم الأخلاق، والصدق في خدمة الجماعة: فيعين الغني الفقير بماله، والعالم يعين الجاهل بعلمه، والقوي يساعد الضعيف، فيشعر المرء وسط مجتمعه هذا، أنه مسؤول عن الصالح العام، فإذا وجد في طريقه أذى أماطه وأزاله، أو فتنة قضى عليها، وإذا كان فلاحا حافظ على فلاحته وصانها من الآفات، وإذا كان عاملا أتقن عمله، أو كان تاجرا لم يتخذ من تجارته سبيلا إلى الكسب الحرام والاستغلال والاحتكار والغش، وإذا كان موظفا في وظيفة عامة أو خاصة أو مؤسسة من المؤسسات، فلا يفرط في عمله بل يعمل على نجاحه وإتمامه، بهذا كله يصلح المجتمع، ويتحقق فيه العدل، ويعيش الجميع في حب ورغد من العيش. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 90).