من المعلوم أن السير في طريق ما، وخاصة على جهة السفر، يستدعي ويستلزم شروطا، وذلك حتى يصل إلى المكان الذي يقصده بسلام وأمان.
وقد تبلورت هذه الشروط في زماننا في شكل قانون يضبط حركة السيارات والطائرات والبواخر وغيرها من وسائل النقل. ثم إن هناك شروطا أخرى لها علاقة بنوع الطريق من حيث صلاحيتها أو عدمها، وبطبيعة الأحوال الجوية، وبحالة السائق النفسية والعقلية والبدنية، وبحالة المركوب من حيث قوته وسلامته التقنية، وأن أي خلل يحدث في شرط من هذه الشروط يجعل السائر معرضا للأخطار بمقدار الخلل الواقع وخطره.
والإنسان في جانبه المعنوي الذي به تميز عن سائر المخلوقات مسافر في مجمل حياته وإن لم يركب سيارة ولا طائرة ولا غيرها يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الانشقاق: 6) فهو في سفر كامل يتضمن ذهابا وإيابا، وله بداية كما أن له نهاية.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “أخذ رسول الله بمنكبي فقال «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك”(1).
قيل: عابر السبيل هو المار على الطريق طالبا وطنه في الدنيا، كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه، ولا يتعلق بشيء مما هو فيه (2).
وقيل: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزل الغريب فلا يتعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه. وهذا شأن الغريب، أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة(3).
وهكذا يظهر من حديث الرسول الكريم التنبيه على حقيقة الدنيا وأنها سير وسفر!! ومما يؤكد بقوة لافتة للانتباه العديدُ من الآيات في القرآن الكريم التي استعملت فيها ألفاظ تدل على معنى السير فمن ذلك لفظ الرجوع:
كما في قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله (البقرة: 281) و قوله تعالى: الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (الروم 11).
ولفظ القلب: كما في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير(العنكبوت: 21) قال الإمام الراغب: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض قيل حث على السياحة في الأرض بالجسم. وقيل حث على إجالة الفكر ومراعاة أحواله، كما روي في الخبر أنه قيل في وصف الأولياء: أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة. ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة للتوصل بها إلى الثواب. وعلى ذلك حُمل قوله : «سافروا تغنموا»(4).
ومن الألفاظ الواردة في هذا السياق أيضا لفظ الصراط المستقيم، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ(الأنعام: 153).
وللسير أو السفر إلى الآخرة خصائص تميزه عن السير المألوف منها:
1 – أنه سير بغير اختيار، فلا يختار الإنسان هل يسير أو لا يسير، فهو سائر لا محالة، لكنه إما سائر على هدى فهو في سلامة، أو سائر على ضلال فهو مشرف على الهلاك.
2 – أنه سير ليس له مسافة محددة معلومة عند السائر لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً(الأعراف: 187).
3 – أنه سير في غاية الأهمية وذلك لأنه سير نحو الخلود.
4 – أنه سير متواصل لا توقف فيه..!!
ولما كان هذا السفر الخاص أهم بكثير من السفر المألوف الذي يكون بين مدينة ومدينة أو بين دولة ودولة، فهو يستلزم –بالأولى والأحرى– شروطا ضرورية لا يمكن أن تتحقق السلامة الكاملة بدونها.
وسنحاول أن نقف في هذه المناسبة على بعض هذه الشروط المذكورة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه . ويمكن تصنيفها إلى شروط موضوعية وشروط ذاتية: أما الأولى فلها علاقة بما يحيط بالإنسان حال السير، وأما الثانية فهي متعلقة بالإنسان ذاته.
أولا: الشروط الموضوعية:
وضوح الرؤية:
فمن المعلوم أن مما يدخل في هذا العنصر بالنسبة للسائلين أن يكون الوقت نهارا، وألا يكون فيه ضباب أو مطر أو غيره مما يعيق رؤية الطريق بوضوح بحيث يتبين له اتجاهها ومنعرجاتها وعلاماتها وحواجزها وخطوطها، وما عساه أن يكون فيها من حصى أو صخور أو دواب أو غيرها.
وكذلك الإنسان في سيره إلى الدار الآخرة يحتاج إلى هذا الوضوح الكامل، وهو متحقق بحمد الله تعالى فيما أنزل من الهدى.
فالله تعالى يقول: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا (الأنعام: 122)، ويقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الحديد: 28).
فبهذا النور الرباني تتبين حقائق الأشياء والأفكار والأشخاص، وتنكشف طريق الحياة واضحة، وذلك لأن مصدر هذا النور هو الله تعالى، فهو نور يخترق جميع أنواع الحجب مهما كانت كثافتها. وقد روى ابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: “وعظنا رسول الله موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»… الحديث”(5).
فزيادةً على أنها في حد ذاتها بيضاء نيرة، فإن ليلها كنهارها، فهما متساويان في النور، وفي هذا إيماء إلى أن السفر في النهار أسلم بكثير من السفر بالليل مهما كانت قوة الأضواء المستعملة. ومن يمارس السياقة يعلم ذلك علم اليقين!!، وهكذا يصير الليل نفسه بنور القرآن الكريم مضيئا نيرا، وهذا النور الذي يصدر من المحجة ليس أشعة مرسلة تسبب للأبصار الإزعاج أحيانا، وإنما هو نور كاشف وضّاح!! علما أن قانون السياقة ينصح بأخذ الحيطة والحذر عند السياقة في وقت شروق الشمس وغروبها إذا كانت قبالة السائق.
صلاحية الطريق وسهولتها واختصارها:
ومن شروط السلامة أيضا استواء الطريق واستقامتها ما أمكن، فالمنعرجات وخاصة الضيقة منها، تستدعي الحذر الشديد، وقد عبر في الشرع عن استقامة الطريق إلى الآخرة بعدة ألفاظ، منها الاستقامة نفسها، ففي سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم، وفي سورة مريم على لسان إبراهيم يعظ أباه: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (مريم: 43)، وفي سورة طه فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (طه: 135).
وبالاستقامة والاستواء يتوفر الوقت الكثير لأن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم، وعُبِّر عن صلاحية هذه الطريق وأفضليتها بلفظ السبيل أيضا، والسبيل هو الطريق الذي فيه سهولة، وبلفظ المحجة وهي جادة الطريق.
العلامات:
تعتبر العلامات التي تكون على الطريق من أهم الوسائل التي تعين المسافر على مواصلة سيره في أمان؛ فمنها ما ينبه على المنعرجات، ومنها ما ينبه على أماكن منع التجاوز، ومنها ما يشير إلى وجود قنطرة أو طريق ضيق، ومنها ما يوجب الوقوف المؤقت، ومنها ما يحذر السائق من الحيوانات التي قد تفاجئه وهي تمر في الطريق، إلى غير ذلك من العلامات المهمة.
فكذلك الإنسان في سيره إلى الدار الآخرة يحتاج إلى علامات تعينه على الوصول إلى الحق، وتنبهه على المخاطر والمهالك. وقد عبر عن هذه العلامات في القرآن الكريم بلفظ الآيات. والآية كما قال الإمام الراغب الأصفهاني: “هي العلامة الظاهرة، وحقيقته: لكل شيء ظاهرٌ هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته؛ إذ كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمن علم ملازمة العلَم للطريق المَنْهَج ثم وَجَد العَلَم عَلِم أنه وجد الطريق، وكذلك إذا علم شيئا مصنوعا علم أنه لابد له من صانع، واشتقاق الآية إما من أَيٍّ فإنها هي التي تبين أيا من أي، والصحيح أنها مشتقة من التأيي الذي هو التثبت والإقامة على الشيء”(6).
ومن عظيم فضل الله تعالى ورحمته أن جعل هذه العلامات من الكثرة بحيث لا يبقى مجال للشك والارتياب أو الالتباس، كما أنه جعلها على صنفين: صنف يتلى، وصنف يرى:
أما الصنف الأول فيتمثل في آيات القرآن الكريم، وأما الصنف الثاني فيتمثل في الآيات التي بثها الله تعالى في هذا الكون الفسيح. وقد بلغت هذه الآيات جميعا من الصنفين الغاية في الوضوح والإبانة، فهي آيات بينة فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (الأنعام: 157)، ومبينات وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ (النور: 34)، ومفصلة قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون (الأنعام: 97)، ومصرفة انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام: 65).
ثم إن ما أَنزل الله تعالى من آيات القرآن الكريم يستوعب كل ما يهم الإنسان، وينبهه على المصالح والمفاسد سواء على مستوى التصورات أم على مستوى التصرفات.
ثانيا: الشروط الذاتية: وخلاصتها استقامة السائر:
يلاحظ الجمع بين استقامة الماشي واستقامة الطريق في قوله تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (الملك: 22)، إن مثل الأول في عالم السياقة كمثل رجل مسافر مستهين بسائر العلامات معرض عنها غير ملتفت إليها، ولم يقف عند هذا الحد، بل ألصق وجهه بالمقود ولم يعد يرى من الطريق شيئا، إن أي أحد يرى هذا الشخص لن يتردد في اعتباره مسلوب العقل والحواس، ولذلك جاء عقيب هذه الآية قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُون (الملك: 23).
وهذه الحواس ضرورية جدا في السياقة، فالسمع يتيح الانتباه إلى المنبه الصوتي للسيارات، وإلى صفارة الشرطي وغيرها، وأما البصر فلا غنى عنه ألبتة في السياقة، وأما الفؤاد فإنما قيل له فؤاد لأنه اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، فالإنسان وهو مسافر يقود سيارته يكون في حاجة شديدة إلى حضور قوته المفكرة وإلى يقظة متوقدة.
وهكذا الإنسان في سيره إلى الدار الآخرة يحتاج إلى الاستماع بل إلى الإنصات: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون (الأعراف: 204)، ويحتاج أيضا إلى إبصار: قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا (الأنعام: 104) قال الطاهر بن عاشور: “وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة: العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً، تنويهاً بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقَّع مجيئه”(7).
ومن ثمرات هذا الكلام التنبيه على أثر آيات القرآن الكريم في القدرة العقلية للإنسان، وذلك أن اندماجه بنورها ينبه العقل ويحضره ويقوي بصيرته ويزيد في مداها، فتنكشف له حقائق الأشياء، ويستثمر مآلاتها وعواقبها إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (ق: 37)، ولذلك نفى الله تعالى العقل عمن لم ينتفع بالقرآن إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (الأنفال: 22).
إن القرآن الكريم بما احتواه من نظم إيمانية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية وغيرها يهدف إلى إقامة حياة الإنسان على هيئة من الاستواء، وبهذا نفهم عمق دلالة العدل الذي أمر الله تعالى به في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ (النحل: 90).
والعدل لفظ يقتضي معنى المساواة، وقد أخرج الإمام البخاري وغيره عن ابن مسعود أن هذه الآية أجمع آية للخير والشر، فقد جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة والنهي عن ثلاثة… وألف الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتابا سماه الشجرة بيّن فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية.
وهكذا نخلص من تلك النصوص إلى شروط متكاملة تحقق السير السليم الموصل إلى الهدف الأعظم الذي هو رضوان الله تعالى في دار القرار بأمان وسلام.
وقد عرضت على الإنسان بغاية الوضوح ليتحمل مسؤوليته كاملة وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام: 152).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. مصطفى فوضيل
———————–
1 – أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
2 – فتح الباري لابن حجر11/ 238.
3 – نفسه.
4 – مفردات القرآن للراغب/ قلب.
5 – أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.
6 – مفردات القرآن للراغب/ أي.
7 – (التحرير والتنوير 5/ 67).