تقضي يومها متدرجة بالغدو والآصال بين نداء الصلوات، ومجالسة القرآن، وتطوي ليلها منيرة محرابها بطول السجود، تغفو في مرقدها أحيانا ثم تصحو في شوق عارم لإسفار صبح يوم يختلف مطلعه عن سائر أيام الأسبوع؛ إنه يوم الجمعة يوم فضيل ويزداد فضله وشرفه بزيارة خير البرية لها محمد في بيتها، يتفقد أحوالها، ويجالسها وصحابته رضي الله تعالى عنهم، يرتقي بهم عبر مدارج الإيمان يزكيهم و يعلمهم الكتاب والحكمة.
كانت تنتظر لقياه بشوق عارم ليستضيء بنور حديثه قلبُها الذي يهفو لذلك وينتشي فرحا به، فتسكن النفس برؤيته عليه السلام، ويطمئن القلب بحديثه، فكلماته المتدفقة يخرق نورُها ظلام الجهل والضلال.
إنها الصحابية الجليلة أم ورقة الأنصارية، نالت المكانة والحظوة عند رسول الله ، وجعل لها امتيازا خاصا، فمنذ بايعته رضي الله عنها مستجيبة لتوثيق العهد وهو يحث أصحابه على زيارتها، فيقول بأبي هو وأمي : «قوموا بنا نزور الشهيدة».
فأي شرف وأية حظوة يا أم ورقة بلغته!! وهذا الحبيب يصفك بالشهيدة ويبشرك بالشهادة قبل نيلها؟!
كانت أم ورقة قد جمعت القرآن وقرأته فزينت قلبها بجمال الوجل، وأنارته بجلال التعرف الى الله عز وجل، وكانت تشملها الأنوار الربانية تتدفق عليها من بصائر القرآن، فبتلات الصلاح في صدرها كانت ترتوي من نبع النبوة الفياض، وجذورها ممتدة إلى غدير الإبصار، به تنفتح لها نوافذ التدبر ملء الكون تتقد معرفة وتتوقد يقينا، تتمثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإن روحك في السماء، وذكرك في الأرض«. (رواه الإمام أحمد).
لقد أغدق الله عز وجل عليها وابل النعمة وأرشدها إلى ما به الرقي في معارج الدرجات، وأبعدها عن نار الغفلة وحسيسها، فجعلها من أهله وخاصته، فنهضت بحقه عابدة مجاهدة تغمرها المحبة ويحدوها الشوق إلى لقائه وبلوغ مقام جواره الكريم، فعبرت عن ذلك بطلب الشهادة في إحدى زيارات رسول الله لها حيث قالت: “يا نبي الله -وكان ذلك يوم بدر- أتأذن لي فأخرج معك، أمرض مرضاكم، وأداوي جرحاكم لعل الله يهدي لي الشهادة” فجاء الرد منه : «قري فإن الله يهدي لك الشهادة». (رواه أبو داوود في سننه 591، وغيره).
فرغم صيانة أم ورقة لشعلة الشوق الى لقاء ربها في قرار سرها إلا أن الشعلة أبت إلا ارتفاعا، مغالبة كل خاطر متردد كليل، تهفو الى الرفيق الأعلى، فنطقت الجوارح بالأشواق بعدما ضاقت الروح في طينها، فألقى البشرى إلى أم ورقة نورا من اليقين الممتد إلى مستقبل الأيام من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. «قري فإن الله يهدي لك الشهادة».
يقف العقل حائرا أمام صدق هذا التجلي العظيم، وتطرب النفس فرحا بهذا المقام الرفيع، وتتوالى الأيام الى خلافة عمر ، فيقف على باب بيت أم ورقة ويجهر قائلا: “صدق رسول الله ، صدق رسول الله ” لما رأى أم ورقة شهيدة.
فبعدما افتقد صوت تهجدها بالقرآن ليلا، قال لجلسائه لما أصبح: “والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة البارحة، فانطلق لزيارتها فلما دخل الدار لم يجد شيئا فدخل البيت وإذا بالفاجعة والرزية، إنها الشهيدة أم ورقة ملفوفة في قطيفة في جانب البيت. فقد اغتالها غلام لها وجارية دبرتهما -اي وعدتهما بحريتهما بعد موتها- فقاما إليها فغمياها وقتلاها ودون سابق ذنب متلفعين بأنانيتهما، فاستعجلا قطاف حرية استعجالا كبلهما بالموت.
فصعد عمر إلى المنبر فذَكَر الخبر، وقال: عليَّ بهما فسألهما، فأقرَّا أنهما قتلاها، فأمر بصلبهما.
رحمة الله عليك أيتها الشهيدة العابدة الزاهدة التقية النقية، وهذه سيرتك في تفاصيل أحداثها؛ رسائل بليغة لنساء المسلمين تدعوهن للعيش بالقرآن ومع القرآن فلن يموت قلب نبضه القرآن.