لست في حاجة إلى التأكيد على مسألة التوحيد التي تعد على رأس تعاليم الرسائل السماوية وفي مقدمة دعوات الأنبياء ومهماتهم. فما من رسالة وما من نبي ورسول إلا كان مجيئه أساسا لهذه الغاية : غاية التوحيد ربوبية وألوهية..(1)
والإسلام بدوره -وهو أحد الأديان السماوية وخاتمها {مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}(2) لم يغفل هذه المسألة، بل أصّلها بشتّى الوسائل في النفوس والسلوك -كما سنرى- وأكد عليها في كثير من تعاليمه، وضاعف الاهتمام بها في الاعتقاد به قبل العمل بشريعته ومن أجل إمكانية ملامسة تأصيل الإسلام لقضية التوحيد من خلال تعاليمه، والوقوف على مدى اهتمامه بها انطلاقا من شعائره يحسن بنا أن نأخذ عينة -بحسب اصطلاح العلماء التجريبيين- من تلك التعاليم والشعائر ليتأتى لنا معاينة أهم معالم هذا التوحيد الذي هو -ولاشك- مدار أمر تكليف الإنسان من قِبل الله تعالى، وعلى أساسه تتحقق العبادة الحقيقية ومهمة الخلافة وعمارة الأرض.
وحفاظا على قواعد العلم ومراد الخوض فيه آثرنا العمل بقاعدة : “تحقق المناسبة شرط أولى في الكلام” لندرج الحديث عن “الحج” بغاية رصد وتتبع أهم “معالم التوحيد” من خلال أعماله ومناسكه، ونحن نتفيأ هذه الأيام ظلال أشهر الحج (شوال -ذو القعدة- ذو الحجة) وكثير من المومنين يعدون أنفسهم للرحلة إلى الديار المقدسة لأداء فريضته، وكذا خطباء الجمعة ووعاظ المساجد منشغلون بموضوعه.
إن الملفت للنظر بمجرد إثارة موضوع الحج ذلك الأمر الإلهي الذي وجهه الحق سبحانه لنبيه ابراهيم عليه السلام عقب انتهائه من رفع قواعد البيت الحرام بمعية ولده إسماعيل عليه السلام في نص الآية الكريمة : {وأذن في الناس بالحجّ ياتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ ياتين من كلّ فجّ عميقٍ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات}(الحج : 25- 26) وهذا -لاشك- استجابة ربانية لدعاء ابراهيم عليه السلام حيث تضرع إلى خالقه بقوله : {ربّنا إنّى أسكنت من ذريّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصّلاة فاجعل أفئدة من النّاس تهوي إليهم…}(ابراهيم : 39).
والحق الذي لامراء فيه أن المتتبع لمسيرة تاريخ الحج، وأحوال وفود الحجاج الى بيت الله الحرام من أول يوم وقوعه، وخاصة بعدما صار فريضة من فرائض الإسلام وإلى يومنا هذا يجد لا محالة أنّ حقائق القرءان ووعوده تلك قد صارت واقعاً ملموساً وسلوكاً محسوساً. فلا يخلو الحج كلّ عام وبأي حال من الأحوال من وفوده وعمّاره بقصد طاعة الله وأداء فروض عبادته : بذكر اسمه سبحانه وتوحيد جلاله في ربوبيته وألوهيته، وشهود منافع كثيرة دينية ودينوية. وإن أجلى منفعة في تلك البقاع الطاهرة تلكم القضية الأساس : قضية التوحيد التي هيّأ الله أسباب حياتها ووسائل فعلها وطرق ممارستها هناك أكثر من أي مجال آخر كما يظهر للمتأمل في جملة أعمال الحج ومناسكه وشعائره.
ألا ترون أنه منذ أن يعقد الحاج(3) العزم والنية على أداء فريضة الحج بالرحلة إلى الديار المقدسة تظهر أولى معالم التوحيد، لأن الحاج آثر بفعله هذا الهجرة إلى الله تعالى -إقراراً بوحدانيته وشوقا إلى طاعته ورغبة في نيل مرضاته- على الهجرة إلى أماكن أخرى لدنيا يصيبها ببيع أو شراء أو نحوهما..
وما استعداد الحاج أثناء رحلته وحرصه على نظافة بدنه وثوبه إلا إقرار بهذا التوحيد واستيقان منه على أن القصد بفعل الحج طاعة الله الواحد وعبادته ومناجاته(4).
ولعل أكثر المشاهد تعبيرا عن معالم التوحيد ومعانيه في الحج ما يلي من مناسك الحج في مواقيته وأعماله : أقوالا وأفعالاً وأحوالاً.
فصيغة التلبية -مثلا(5) وهي إحدى واجبات الحج وفي مقدمة أعماله كلها تذكير بالتوحيد وتوكيد للتوحيد، بل تجديد لغراس التوحيد لأنها من الأعمال التي يواظِب عليها الحاج في أداء مناسكه.
ومواقيت الإحرام بالحج المكانية والزمانية معا تدل دلالة بينة واضحة على معنى التوحيد الإلهي؛ فتعيين الأشهر الثلاث: “شوال -ذو القعدة -ذو الحجة” أشهر للحج لا غير، وربط جملة من الأعمال التي يتوقف عليها فعل الحج بمواعيد زمنية معينة(6) كيوم التروية (اليوم الثامن)، وموعد الوقوف بعرفة ( اليوم التاسع)، ووقت رمي جمرة العقبة ونحر الهدي والحلق (اليوم العاشر).. هذه كلها تصب في ذلك العنى.
وكذلك تعيين المواقيت المكانية كمكان الإحرام (رابع، بئر علي..)(7)، ومكان الطواف (الكعبة المشرفة)، ومكان السعي (الصفا والمروة)، ومكان الرمي (جمرة العقبة)، ومحل الوقوف يوم عرفة (جبل عرفة)(8)، و المشعر الحرام ، ومنًى، ومزدلفة.. كل هذه الأماكن تملي على الحاج أن يلتزم بالفعل في أماكن معينة امتثالا لأمر الله بعد تحصيل الإىمان بوحدانيته.
وأكثر من هذا وذاك أحوال الحجاج -وفود الرحمان وضيوفه- التي توحي كلها بالولاء لله تعالى والتوجه الخالص إليه والخضوع له كما يتجلى من جهة- في مظهرهم حين الطواف وحال السعي وكذا الوقوف بعرفة..، وارتداء السواد الأعظم من الحجاج للمآزر والأردية البيضاء، ومشهد الاضطباع والاندفاع نحو البيت الحرام لأداء الشعائر بصفة جماعية ومستديمة، ومن جهة أخرى في أقوالهم، خاصة أثناء الذكر(9)، وكذا تلاوة القرءان وخاصة ما تؤدى به الصلوات غالبا(10).
ولا عجب فما دام ذلك البيت -وهو قبلة الحجاج- لله الواحد فمن الطبيعي أن يكون من باب قصدهم إليه هو الاعتراف برب هذا البيت الواحد، إيمانا بوحدانيته، وتعظيما لشعائره، وكل ذلك من تقوى القلوب(11).
وإذا كان مبدأ التوحيد، وهو أمر يخص الخالق- قد أوجد له الإسلام -كما تتبعنا- أسسه ووسائله، وجعل من منبت الإسلام ومغارسه الأولى مجاله الخصب أثناء موسم الحج عند أداء مناسكه وشعائره، فإن مبدأ الوحدة -وهو أمر يخص المخلوقين من الناس ومنهم المسمون بدءاً وانتهاءً- لا يقل أهيمة عنه، وحدة المسلمين وهي أملنا جميعا وكلنا شوق إليها(12).
وإذا كان الحج -وهو يوم الجمع الأكبر- ميعادا للمسلمين من كل فج عميق لتلبية دعوة خالقهم والاستجابة لنداء ربهم قلبا وقالبا(13) فبسببه وبفعل مناسكه تتوحد القلوب وتتأجج مشاعر الأخوة، ويعم التواد والتراحم ويسود التعاون في الخير وعليه، وتنمحي الفوارق وكل الامتيازات بفضل النفحات الإيمانية والفيوضات الربانية التي لا يتأتى نشاطها وفعلها أكثر إلا هناك وفي مثل تلك الأجواء الروحانية.
وعلى كل حال، فإن الحج- وهو من أعظم فرائض دين الإسلام- ليعد عاملاً من عوامل التدريب العملي على المثل العليا التي تؤسس للتوحيد الحقيقي والوحدة الحقة، ومناسكه لتعتبر -بحق- معينا فياضا ومنهلا ثرا لكثير من القيم والفوائد والفضائل على الدوام، مصداقا لوعد ربنا في هذا المقام : {وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالاً وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم}(الحج : 25- 26).
< ذ. ابراهيم إمونن <
——————
1- كما صرح الحق سبحانه بذلك في كتابه بقوله : {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}(الأنبياء : 25)، وقوله صلى عليه وسلم : >أفضل ما قلته أنا والنبيئون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له<(رواه مالك في الموطأ).
2- نص الآية : {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه}(المائدة : 48).
3- عبرنا بالحاج استعمالاً لصيغة التّغليب فقط وإلا فإن الحج فرض على الذكر والأنثى معا. // 4- {ولله على الناس حج البيت..}(آل عمران : 97).
5- “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
6- {واذكروا الله في أيام معدودات}(البقرة : 201).
7- عن ابن عباس رضي الله عنه قال : >وقت رسول الله صلى عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الحجفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم..<(رواه البخاري في صحيحه).
8- {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}(البقرة : 197).
9- من أشهر الأذكار في الحج : >لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إا هو وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده<.
10- سورتا “الكافرون والإخلاص”، وموضوعهما أساسا عن التوحيد.
11- {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج : 8).
12- {وأن هذه أمتكم أمة واحدة}(المومنون : 53).
13- {.فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم..}(ابراهيم : 39).
< ذ. ابراهيم إمونن <