تلك هي إجابة رسول الله أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، على سؤالها إياه عليه الصلاة والسلام، في سياق يشي بالرهبة والجلال: “أنهلك وفينا الصالحون”. متفق عليه.
وإذا كان سؤال أمنا زينب رضي الله عنها يعبر عن هم عميق يتعلق بمصير الأمة، ورغبة صادقة في معرفة طبيعة الوضع الذي يضمن سلامة المجتمع وأمنه من خطر الهلاك والمحق والزوال، فإن جواب رسول الله يتضمن سنة ثابتة من سنن الاجتماع التي بنبغي لكل مسلم أن يكون على وعي جازم بها ضمن ما ينبغي أن يشكل سلاحا فكريا ورؤية فلسفية لا مفر من امتلاكها في واقع يطبعه التدافع والصراع بين الحق والباطل، والصالح والطالح، والطيب والخبيث. فليس يكفي أبدا -في ضوء جواب رسول الله – أن يحتوي المجتمع على فئة أو نخبة من الصالحين، مهما علت درجة صلاحهم وورعهم وتقواهم، ليكون في منأى عن الهلاك، بل لا بد أن يكتمل فيه نصاب الصلاح بحيث يكون هو الغالب والمهيمن على بنية المجتمع بجميع مجالاته وقطاعاته، وتكون مظاهر الخبث موسومة بالضآلة والقلة بحيث لا تقوى على تلويث مجرى الحياة في المجتمع الذي تفرض فيه سلطة الاستقامة نفسها، وتتمكن الفضائل العالية والقيم السامية من سلوك الناس وعلاقاتهم، فيأمنون على دينهم ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم، فذلك لعمر الحق هو النموذج الممتاز الذي جاء الإسلام لإرسائه وترسيخه، لتحقيق السعادة في بعديها الدنيوي والأخروي.
وإن قرائن الأحوال لتنبئنا بيقين كامل، أن تحقيق ذلك النموذج في غياب تطبيق شريعة الله السمحة، هو من المستحيلات، لأن تطبيقها هو الكفيل وحده يصنع الشخصيات والأفراد الصالحين الذين يحملون على عاتقهم مهمة بناء ذلك النموذج الفريد الذي به تصلح الأرض، ويحال به دون تراكم طبقات الخبث الذي يفضي إلى الهلاك.
إن قرائن الأحوال تلك، والمتمثلة في تفكك عرى القيم، وانحلال العلاقات الاجتماعية، وعربدة الفسوق والعصيان، والتطاول على الصلاح والصالحين، تؤكد هذه الحقيقة وتبرهن عليها بشكل قاطع. فما دام ما هو مطبق من مساطر ولوائح قانونية، خاليا من النجاعة والفعالية في ذاتها، ومن حيث أساليب تطبيقها، فسنظل أمام تفاقم حتمي للخبث الذي يزحف على الأخضر واليابس.
إن أوضاع العرب والمسلمين اليوم توجد على شفير الهاوية بسبب تحطم صمام الأمان الذي يعصم تلك الأوضاع من التآكل والانفراط، ثم التحلل والانهيار، ألا وهو التشبع بقيم القرآن ، وفرض هيبة السلطان، فهما دعامتا البنيان الحضاري بلا منازع. لقد زحف الخبث على كل ميدان، واكتسح عالم الإنسان، فلم تسلم منه بقعة من البقاع، وانطلقت جموع الناس تهيم على وجوهها في أرض مزروعة بالألغام والآثام، وغدت كالقطعان الضالة التي لا تعرف لها وجهة تقصدها، أو ملاذا تأوي إليه.
وأغرب الغرائب فيما نحن فيه، أن لا يستثنى من ذلك الزحف المقيت والمخيف، حتى الميدان الذي تعول عليه الأمم الحية في عملية الإصلاح وإعادة البناء، ألا وهو ميدان التعليم والتثقيف، فلا نكاد نجد في كل منهما غير قطع متنافرة، أو عناصر متدابرة، لا تشكل كيانا قابلا لأن يكون أداة إصلاح أو بناء، وليس ذلك فحسب، فالأمر أدهى وأمر، بسبب التمكين للعناصر السالبة المدمرة التي طرأت طروا على حياتنا، واقتحمت حمانا دون رقيب ولا حسيب.
لقد تهيأت شروط الهلاك الشامل وأسبابه، واستأسد أرباب صناعة الفجور، وقامت لهم سوق رائجة، ومؤسسات ومراكز وشبكات تسعى إلى نشر بضاعتها على أوسع نطاق بين مختلف شرائح المجتمع وطبقاته، كل بحسب قابليته ومستواه التعليمي والثقافي، فلا يكاد يفلت أحد من آثار القصف الرهيب الذي تمارسه تلك المؤسسات ليل نهار، مما يدخل تحت مفهوم “مكر الليل والنهار” وهو مفهوم قرآني يسلط الضوء على طبيعة الآثار الفتاكة التي تحدثها عملية الدأب والاستمرار في تلويث البيئة النفسية والأخلاقية بمختلف الفيروسات التي تنفذ إلى أعماق الناس المستهدفين بسمومها القاتلة. ولن يسلم منها على مستوى الخلاص الفردي، إلا فئة قليلة أوتي أصحابها حصانة قادرة على تفتيت آثار تلك السموم، وإبطال مفعولها، مع احتمال الخضوع لبعض مخلفاتها، بفعل تعذر اعتزال المحيط، أو الغلاف الجوي العام، الذي تتحرك فيه دوامة الفيروسات كما يتحرك الإعصار الشديد القوة والانفجار. يقول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(الأعراف: 165).
إن الذي لا مراء فيه، لأنه يمثل سنة من سنن الله في الاجتماع والعمران البشري، أن استشراء الخبث في المجتمعات، يتناسب طردا في صبيبه وقوة جرفه واقتلاعه للأشجار الخضراء التي تزين الأرض، وطمسه لمنابع الحياة، مع فتح الباب على مصراعيها لتأجج غريزة الأنانية والطغيان والعدوان، على حساب الضبط ولجم الغرائز الذي يمثل في جوهره ترجمة أمينة وصادقة لتمثل قيم الخير والحق والجمال، لصالح الانتصار لكرامة الإنسان التي أهدرت ومرغت في الأوحال.
ولن يتحقق هذا المطلب العزيز على وجه اليقين، إلا في إطار حضارة القرآن، عقيدة وشريعة ومنهج حياة. وخارج هذا الإطار، لا مفر من أن تطلع على الناس رؤوس فتنة عمياء، تملأ ساحتهم بالأشلاء والدماء. وصدق الله القائل في محكم التنزيل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال: 25).
د. عبد المجيد بنمسعود