الخطبة الأولى:
أيها الناس: إننا نعيش في زمنٍ بلغت فيه الحضارة المادية مبلغًا لم تبلغه من قبل من حيث سعةُ الكسب ورغدُ العيش ورفاهيةُ الوسائل والتقدمُ الهائل في الضروريات والحاجيات والتحسينات والتنوعُ في الأسباب الموصلة إليها… حياة تدهش العقول وتبهر العيون… بيد أن هذه الحضارة لم تجعل المرء الذي يعيشها أسعد من المرء في أزمانٍ سابقة ولم تجعله أهنأ من غيره ولا أكثر أمنًا ولا أشرح صدرًا مما مضى.
أيها المؤمنون: الكل يصيح ويشتكي؛ ترى أناساً رواتبهم ضخمة ودخلهم جيد ثم تراهم في أواخر الشهر يصيحون ويستدينون، وترى بيوتاً فيها عصبة من الرجال العاملين والموظفين ومع ذلك تراهم صفر اليدين أو قد تحملوا شيئاً من الدين، رواتبنا تزداد والمشاكل في تكاثر والمعاشات ترتفع ومستوى المعيشة ينخفض فلا بركة في أموالنا ولا بركة في أرزاقنا ولا بركة في أوقاتنا ولا بركة في بيوتنا ولا بركة في أولادنا ولا بركة في أعمارنا فيا ترى ما هي المشكلة وما هي أسبابها وما هو الحل لهذه الظاهرة الملموسة والقضية المحسوسة التي نحسها في واقعنا ونلمسها في حياتنا فكان لزاماً علينا أن نتأمل أحوالنا ونراجع أنفسنا وننظر في الأسباب التي أدت إلى نزع البركات وقلة الخيرات ولهذا كان نبينا كثيراً ما يقول في قنوته ودعائه «اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت.. وبارك لنا فيما أعطيت» (رواه الترمذي). فما هي البركة؟ وكيف نستجلبها؟
عباد الله: البركة عنصرٌ أساسٌ في تمام وجود الإنسان لا قوام لحياته بدونها؛ إذ ما قيمة كسبٍ لا بركة فيه؟ وما قيمة وقتٍ مُحِقَتْ بركته؟ وما فائدة علمٍ وجوده وعدمه على حد سواء؟ وما نتيجة طعامٍ وشرابٍ لا يسمن ولا يغني من جوع.. لا يطفئ ظمأً ولا يروى غليلا؟
البركة -عباد الله- ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه ولا كثرة الولد ولا في العلم المادي… إنها قيمةٌ معنويةٌ لا تُرى بالعين المجردة ولا تُقاس بالكم ولا تحويها الخزائن، بل هي شعورٌ إيجابيٌّ يشعر به الإنسان بين جوانحه يثمر عنه صفاء نفسٍ وطمأنينة قلبٍ وانشراح صدرٍ وقناعةٍ ظاهرةٍ… وإذا كان أمان المرء في سربه وتحصيله قوت يومه واستدامة صحته وعافيته هو ضالة كل حيٍّ وشجرة يستظل بها الأحياء .. فإن البركة هي ماء هذه الشجرة وغذاؤها وهواؤها وضياؤها.
عباد الله … إن الله جل جلاله قد أودع هذه البركة بفضله خاصيةً خارجةً عن عون المال ومدد الصحة بحيث يمكن أن تحيل الكوخ الصغير إلى قصرٍ رحب، وحين تفقد هذه البركة يتحول القصر الفسيح إلى قفص أو سجن صغير ضيق… كل ذلك بسبب البركة وجودًا وعدما؛ فالقليل يكثر بالبركة والكثير يقل بفقدانها.
عباد الله: لقد جعَل اللهُ الأرضَ مستقرًّا لحياة العباد، وبارك فيها، قال تعالى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (فُصِّلَتْ: 9).
واصطفى الله تعالى أنبياءه، وأنعم عليهم بالبركة في حياتهم وأعمالهم، فقال عن نوح : قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (هُودٍ: )48، وقال عن عيسى : وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ (مَرْيَمَ: 30)… وقد ثبتت بركة النبي ورآها الصحابة رضوان الله عليهم بأعينهم.
وللقرآن الكريم بركة في اتباعه والعمل به، قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الْأَنْعَامِ: 156)،
والبركة تعني النموَّ والازدهارَ، إذا حلَّت في قليلٍ كَثَّرَتْهُ، وإذا قرَّت في مكانٍ ظهَر أثرُها وفاض خيرُها وعمَّ نفعُها المالَ والولدَ والوقتَ والعلمَ والعملَ والجوارحَ.
وبارك الله في أمة النبي فنَمَت وازدهرت حتى سبقت كلَّ الأمم.
والمسلم يتحرى البركة أينما حَلَّ وارتحل؛ لتغمر حياته وأولاده وكل ما حوله، كان رسول الله إذا أتى الثمر أُتِيَ به فيقول: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ». (صحيح مسلم)
والمؤمنُ يستجلب البركةَ لبيته بدوام ذِكْر الله فيه وقراءة سورة البقرة، يقول : «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ» (صحيح مسلم).
وقال : «… اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (صحيح مسلم).
أيها المؤمنون: البركةُ تُستجلب بملازمة الاستغفار، يقول الله : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (نُوحٍ: 10-12).
والمؤمن يتحرى البركة بالحرص على صلاة الفجر مع الجماعة؛ ففيها الفوزُ الكبيرُ بِنَيْل البركة مع البكور، قال : «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» (رواه أبو داود). وكان إذا بعث سَرِيَّةً أو جيشًا بعثهم من أول النهار.
والدعاءُ بالبركةِ خيرُ جالبٍ لفضلها ومُدِرّ لنعيمها؛ فعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة فدخل عليه القوم فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: “لا تفعلوا ذلك”، قالوا: “فما نقول يا أبا زيد؟”، قال: “قولوا: بارك الله لكم وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر”. (رواه ابن أبي شيبة).
عباد الله: البركة تتحقق بلزوم تحية الإسلام التي هي من خصائص هذه الأمة المباركة، قال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً (النُّورِ: 59).
وتُستجلب البركة في التجارة بالصدق والتبيين، قال : «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أو قال:”حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (متفق عليه).
وصلةُ الرحمِ منبعُ بركةٍ تزيد في العمر وتبارك في الرزق، قال : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». (رواه البخاري).
والإحسان إلى الضعفاء في المجتمع المسلم ميدان فسيح لمن يَرُومُ تكثيرَ البركةِ، قال : «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ» (رواه البخاري) وفي رواية «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ» (رواه النسائي).
وإذا حلت البركة في حياة المسلم رزقه الله عقلا ناضجا بالفقه، وقلبا حيًّا بالعلم والإيمان؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ الخَلاَءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ: «مَنْ وَضَعَ هَذَا فَأُخْبِرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (صحيح البخاري).
ومن صور البركة في حياة المسلم: أن يُرزق الزوجةَ الصالحةَ الودودَ الولودَ، ويُوهب ذريةً طيبةً، قال : «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» (رواه البخاري). وذات الدين تُكْثِرُ في البيتِ البركةَ؛ فإن التراب علامة على النماء وزيادة الخير.
وإفاضةُ اللهِ على العبدِ المالَ الوفيرَ، وتوفيقُه للإنفاق في وجوه البِرّ والإحسان بركة ظاهرة ومِنَّة غامرة، وَمَنْ وضَع المالَ في سخط الله ومنَع حقَّ اللهِ مُحِقَتْ منه تلك البركةُ، قال الله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (الْبَقَرَةِ: 275).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لو رجعنا قليلًا إلى الوراء لوجدنا أمثلةً كثيرة لحلول البركة ووجودها في عصر النبي وعهد أصحابه رضي الله عنهم وعهود من بعدهم إلى زمنٍ ليس عنا ببعيد… فقد كان النبي يجد البركة في الرغيف والرغيفين، وربما شبع هو وأصحابه من صحفةٍ واحدة… وكان عثمان الذي جهز جيش العسرة قد بلغت ثمرة نخله مائة ألف أو تزيد… حيث بارك الله له إنفاقه في سبيله…
عباد الله: تقع علينا جميعا معشر المسلمين مسؤوليةُ تحرِّي البركة في أوطاننا وداخل مجتمعاتنا، ويتحقق ذلك بإعمار الأرض بمنهج الله تعالى، وحسن معاملة خلقه، وتحري الحلال واجتناب الحرام.
وإن من ينشد البركة في نفسه وماله وشأنه كله ما عليه إلا أن يلتمس مظان هذه البركة ويتتبع أسبابها، وإن من استقرى سنة المصطفى يجد أن جماع البركة يكمن في أن يتقى المجتمع المسلم ربه ويؤمن به على ما أراد الله له وأراد له رسوله ، فقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(الْأَعْرَافِ: 95).
ولا ينكر عاقل رشيد أن الإعراض عن منهج الله سبب لزوال البركة وذهاب الخير، وقد قص الله تعالى علينا نبأ سبأ الذين أُبْدِلُوا من بعد البركات والنماء مَحْقًا، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَساكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ اُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (سَبَأٍ: 15-16).
ذ. عبد حميد الرازي